للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لِلْمَنِّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: الَّذِي يَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى [الْبَقَرَةِ: ٥٧] وَثَانِيهَا: أَنْ تَمُنَّ بِمَا أَعْطَيْتَ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى [الْبَقَرَةِ: ٢٦٤] وَثَالِثُهَا: الْقَطْعُ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [فُصِّلَتْ: ٨] وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ [القلم: ٣] وَرَابِعُهَا: الْإِنْعَامُ وَالْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ لَا تَطْلُبُ الْجَزَاءَ مِنْهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: هَذَا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ [ص: ٣٩] وَقَوْلُهُ: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَالْمَنَّانُ فِي صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى: الْمُعْطِي ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ عِوَضًا وَقَوْلُهُ: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَيْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ وَأَحْسَنَ إِلَيْهِمْ بِبَعْثِهِ هَذَا الرَّسُولَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ بِعْثَةَ الرَّسُولِ إِحْسَانٌ إِلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وَجْهَ الْإِحْسَانِ فِي بِعْثَتِهِ كَوْنُهُ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى مَا يُخَلِّصُهُمْ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ وَيُوَصِّلُهُمْ إِلَى ثَوَابِ اللَّهِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي حَقِّ الْعَالَمِينَ، لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى كُلِّ الْعَالَمِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سَبَأٍ: ٢٨] إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَذَا الْإِنْعَامِ إِلَّا أَهْلُ الْإِسْلَامِ، فَلِهَذَا التَّأْوِيلِ خَصَّ تَعَالَى هَذِهِ الْمِنَّةَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢] مَعَ أَنَّهُ هُدًى لِلْكُلِّ، كَمَا قَالَ: هُدىً لِلنَّاسِ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥] وَقَوْلُهُ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النَّازِعَاتِ:

٤٥] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ بَعْثَةَ الرَّسُولِ إِحْسَانٌ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْخَلْقِ ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِالرَّسُولِ أَكْثَرَ كَانَ وَجْهُ الْإِنْعَامِ فِي بَعْثَةِ الرُّسُلِ أَكْثَرَ، وَبَعْثَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْمَنَافِعُ الْحَاصِلَةُ مِنْ أَصْلِ الْبَعْثَةِ، وَالثَّانِي: الْمَنَافِعُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِ مَا فِيهِ مِنَ الْخِصَالِ الَّتِي مَا كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي غَيْرِهِ.

أَمَّا الْمَنْفَعَةُ بِسَبَبِ أَصْلِ الْبَعْثَةِ فَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النِّسَاءِ: ١٦٥] قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيُّ: وَجْهُ الِانْتِفَاعِ بِبَعْثَةِ الرُّسُلِ لَيْسَ إِلَّا فِي طَرِيقِ الدِّينِ وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخَلْقَ جُبِلُوا عَلَى النُّقْصَانِ وَقِلَّةِ الْفَهْمِ وَعَدَمِ الدِّرَايَةِ، فَهُوَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَوْرَدَ عَلَيْهِمْ وُجُوهَ الدَّلَائِلِ وَنَقَّحَهَا، وَكُلَّمَا خَطَرَ بِبَالِهِمْ شَكٌّ أَوْ شُبْهَةٌ أَزَالَهَا وَأَجَابَ عَنْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَلْقَ وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ خِدْمَةِ مَوْلَاهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ مَا كَانُوا عَارِفِينَ بِكَيْفِيَّةِ تِلْكَ الْخِدْمَةِ، فَهُوَ شَرَحَ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةَ لَهُمْ حَتَّى يُقْدِمُوا عَلَى الْخِدْمَةِ آمَنِينَ مِنَ/ الْغَلَطِ وَمِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْخَلْقَ جُبِلُوا عَلَى الْكَسَلِ وَالْغَفْلَةِ وَالتَّوَانِي وَالْمَلَالَةِ فَهُوَ يُورِدُ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعَ التَّرْغِيبَاتِ وَالتَّرْهِيبَاتِ حَتَّى إِنَّهُ كُلَّمَا عَرَضَ لَهُمْ كَسَلٌ أَوْ فُتُورٌ نَشَّطَهُمْ لِلطَّاعَةِ وَرَغَّبَهُمْ فِيهَا. الرَّابِعُ: أَنَّ أَنْوَارَ عُقُولِ الْخَلْقِ تَجْرِي مَجْرَى أَنْوَارِ الْبَصَرِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِنُورِ الْبَصَرِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا عِنْدَ سُطُوعِ نُورِ الشَّمْسِ، وَنُورُهُ عَقْلِيٌّ إِلَهِيٌّ يَجْرِي مَجْرَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَيُقَوِّي الْعُقُولَ بِنُورِ عَقْلِهِ، وَيَظْهَرُ لَهُمْ مِنْ لَوَائِحِ الْغَيْبِ مَا كَانَ مُسْتَتِرًا عَنْهُمْ قَبْلَ ظُهُورِهِ، فَهَذَا إِشَارَةٌ حَقِيقِيَّةٌ إِلَى فَوَائِدِ أَصْلِ الْبَعْثَةِ.

وَأَمَّا الْمَنَافِعُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِ مَا كَانَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصِّفَاتِ، فَأُمُورٌ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوَّلُهَا قَوْلُهُ: مِنْ أَنْفُسِهِمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الِانْتِفَاعِ بِهَذَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وُلِدَ فِي بَلَدِهِمْ وَنَشَأَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَهُمْ كَانُوا عَارِفِينَ بِأَحْوَالِهِ مُطَّلِعِينَ عَلَى جَمِيعِ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، فَمَا شَاهَدُوا مِنْهُ مِنْ أَوَّلِ عُمُرِهِ إِلَى آخِرِهِ إِلَّا الصِّدْقَ وَالْعَفَافَ، وَعَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الدُّنْيَا وَالْبُعْدِ عَنِ الْكَذِبِ، وَالْمُلَازَمَةِ عَلَى الصِّدْقِ، وَمَنْ عَرَفَ مِنْ أَحْوَالِهِ مِنْ أَوَّلِ الْعُمُرِ إِلَى آخِرِهِ مُلَازَمَتَهُ الصِّدْقَ وَالْأَمَانَةَ، وَبُعْدَهُ عَنِ الْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ، ثُمَّ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ الَّتِي يَكُونُ