للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ يَقُلْ: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً كَثِيرًا؟ وَلِمَ خَصَّصَ وَصْفَ الْكَثْرَةِ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ؟

قُلْنَا: السَّبَبُ فِيهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ شُهْرَةَ الرِّجَالِ أَتَمُّ، فَكَانَتْ كَثْرَتُهُمْ أَظْهَرَ، فَلَا جَرَمَ خُصُّوا بِوَصْفِ الْكَثْرَةِ، وَهَذَا كَالتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ اللَّائِقَ بِحَالِ الرِّجَالِ الِاشْتِهَارُ وَالْخُرُوجُ وَالْبُرُوزُ، وَاللَّائِقُ بِحَالِ النِّسَاءِ الِاخْتِفَاءُ وَالْخُمُولُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّ جَمِيعَ الْأَشْخَاصِ الْبَشَرِيَّةِ كَانُوا كَالذَّرِّ، وَكَانُوا مُجْتَمِعِينَ فِي صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَمَلُوا قَوْلَهُ: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً عَلَى ظَاهِرِهِ، وَالَّذِينَ أَنْكَرُوا ذَلِكَ قَالُوا: الْمُرَادُ بَثَّ مِنْهُمَا أَوْلَادَهُمَا وَمِنْ أَوْلَادِهِمَا جَمْعًا آخَرِينَ، فَكَانَ الْكُلُّ مُضَافًا إِلَيْهِمَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً.

فِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: تَسائَلُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، فَمَنْ شَدَّدَ أَرَادَ: تَتَسَاءَلُونَ فَأَدْغَمَ التَّاءَ فِي السِّينِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي أَنَّهُمَا مِنْ حُرُوفِ اللِّسَانِ وَأُصُولِ الثَّنَايَا وَاجْتِمَاعِهِمَا فِي الْهَمْسِ، وَمَنْ خَفَّفَ حَذَفَ تَاءَ تَتَفَاعَلُونَ لِاجْتِمَاعِ حُرُوفٍ مُتَقَارِبَةٍ، فَأَعَلَّهَا بِالْحَذْفِ كَمَا أَعَلَّهَا الْأَوَّلُونَ بِالْإِدْغَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُرُوفَ الْمُتَقَارِبَةَ إِذَا اجْتَمَعَتْ خُفِّفَتْ تَارَةً بِالْحَذْفِ وَأُخْرَى بِالْإِدْغَامِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ وَالْأَرْحامَ بِجَرِّ الْمِيمِ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ رُوِيتُ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ غَيْرِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا الْبَاقُونَ مِنَ الْقُرَّاءِ فَكُلُّهُمْ قَرَءُوا بِنَصْبِ الْمِيمِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ وَالْأَرْحامَ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلَاثِ، أَمَّا قِرَاءَةُ حَمْزَةَ فَقَدْ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إِلَى أَنَّهَا فَاسِدَةٌ، قَالُوا: لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي عَطْفَ الْمُظْهَرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَاحْتَجُّوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ بِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْمُضْمَرُ الْمَجْرُورُ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْفِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ عطف لمظهر عَلَيْهِ، إِنَّمَا قُلْنَا الْمُضْمَرُ الْمَجْرُورُ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْفِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَنْفَصِلُ الْبَتَّةَ كَمَا أَنَّ التَّنْوِينَ لَا يَنْفَصِلُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْهَاءَ وَالْكَافَ فِي قَوْلِهِ: بِهِ، وَبِكَ لَا تَرَى وَاحِدًا مُنْفَصِلًا عَنِ الْجَارِ الْبَتَّةَ فَصَارَ كَالتَّنْوِينِ.

الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَحْذِفُونَ الْيَاءَ مِنَ الْمُنَادَى الْمُضَافِ فِي الِاخْتِيَارِ كَحَذْفِهِمُ التَّنْوِينَ مِنَ الْمُفْرَدِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ: يَا غُلَامِ، فَكَانَ الْمُضْمَرُ الْمَجْرُورُ مُشَابِهًا لِلتَّنْوِينِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُضْمَرَ الْمَجْرُورَ بِمَنْزِلَةِ حَرْفِ التَّنْوِينَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ عَطْفُ الْمُظْهَرِ عَلَيْهِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْعَطْفِ حُصُولَ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فإذا لم تحصل المشابهة هاهنا وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْعَطْفُ. وَثَانِيهَا: قَالَ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى: إِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَحْسِنُوا عَطْفَ الْمُظْهَرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَرْفُوعِ. فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: اذْهَبْ وَزَيْدٌ، وَذَهَبْتُ وَزَيْدٌ بَلْ يَقُولُونَ: اذْهَبْ أَنْتَ وَزَيْدٌ، وَذَهَبْتُ أَنَا وَزَيْدٌ. قَالَ تَعَالَى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [الْمَائِدَةِ: ٢٤] مَعَ أَنَّ الْمُضْمَرَ الْمَرْفُوعَ قَدْ يَنْفَصِلُ، فَإِذَا لَمْ يجز عَطْفُ الْمُظْهَرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ مَعَ أَنَّهُ أَقْوَى مِنَ الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ بِسَبَبِ أَنَّهُ قَدْ يَنْفَصِلُ، فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ عَطْفُ الْمُظْهَرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَجْرُورِ مَعَ أَنَّهُ الْبَتَّةَ لَا يَنْفَصِلُ كَانَ أَوْلَى. وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْمَازِنِيُّ: الْمَعْطُوفُ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُتَشَارِكَانِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ عَطْفُ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي لَوْ جَازَ عَطْفُ الثَّانِي على الأول، وهاهنا هَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ حَاصِلٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّكَ لَا تقول: مررت بزيدوك، فَكَذَلِكَ لَا تَقُولُ مَرَرْتُ بِكَ وَزَيْدٍ.