وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِأَحَدِ الْعُمُومَيْنِ بِالْعُمُومِ الثَّانِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فَلِإِمِّهِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ وَشَرَطُوا فِي جَوَازِ هَذِهِ الْكَسْرَةِ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهَا حَرْفًا مَكْسُورًا أَوْ يَاءً.
أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكَقَوْلِهِ: فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [الزمر: ٦] .
وأما الثاني: فكقوله: فِي أُمِّها رَسُولًا [القصص: ٥٩] وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ هَذَا الشَّرْطُ فَلَيْسَ إِلَّا الضَّمُّ كَقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٠] وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَإِنَّهُمْ قَرَءُوا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، أَمَّا وَجْهُ مَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوا الضَّمَّةَ بَعْدَ الْكَسْرَةِ فِي قَوْلِهِ: فَلِأُمِّهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّامَ لِشِدَّةِ اتِّصَالِهَا بِالْأُمِّ صَارَ الْمَجْمُوعُ كَأَنَّهُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِعُلٌ بِكَسْرِ الْفَاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ، فَلَا جَرَمَ جُعِلَتِ الضَّمَّةُ كَسْرَةً، وَأَمَّا وَجْهُ مَنْ قَرَأَ الْهَمْزَةَ بِالضَّمِّ فَهُوَ أَتَى بِهَا عَلَى الْأَصْلِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ اسْتِعْمَالُ فِعُلٍ لِأَنَّ اللَّامَ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِلِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ.
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ أَحْوَالِ الْأَبَوَيْنِ وَهِيَ أَنْ يُوجَدَ مَعَهُمَا الْإِخْوَةُ، وَالْأَخَوَاتُ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأُخْتَ الْوَاحِدَةَ لَا تَحْجُبُ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ يَحْجُبُونَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْأُخْتَيْنِ، فَالْأَكْثَرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ/ الْحَجْبِ كَمَا فِي الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَحْجُبَانِ كَمَا فِي حَقِّ الْوَاحِدَةِ، حُجَّةُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحَجْبَ مَشْرُوطٌ بِوُجُودِ الْإِخْوَةِ، وَلَفْظُ الْإِخْوَةِ جَمْعٌ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ عَلَى مَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدِ الثَّلَاثَةُ لَمْ يَحْصُلْ شَرْطُ الْحَجْبِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْحَجْبُ. رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لِعُثْمَانَ: بِمَ صَارَ الْأَخَوَانِ يَرُدَّانِ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ؟ وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ وَالْأَخَوَانِ فِي لِسَانِ قَوْمِكَ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ؟
فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ قَضَاءً قَضَى بِهِ مَنْ قَبْلِي وَمَضَى فِي الْأَمْصَارِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ذَكَرَ ذَلِكَ مَعَ عُثْمَانَ، وَعُثْمَانُ مَا أَنْكَرَهُ، وَهَمَا كَانَا مِنْ صَمِيمِ الْعَرَبِ، وَمِنْ عُلَمَاءِ اللِّسَانِ، فَكَانَ اتِّفَاقُهُمَا حُجَّةً فِي ذَلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَاحْتَجُّوا فِيهِ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التَّحْرِيمِ: ٤] وَلَا يَكُونُ لِلْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ أَكْثَرُ مِنْ قَلْبٍ وَاحِدٍ، وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ إِنَّمَا يَحْسُنُ لَوْ كَانَ لَفْظُ النِّسَاءِ صَالِحًا لِلثِّنْتَيْنِ، وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ زَعَمُوا أَنَّ ظَاهِرَ الْكِتَابِ يُوجِبُ الْحَجْبَ بِالْأَخَوَيْنِ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي نَصَرْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَظَاهِرُ الْكِتَابِ لَا يُوجِبُ الْحَجْبَ بِالْأَخَوَيْنِ، وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لِذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسُ، وَتَقْرِيرُهُ أَنْ نَقُولَ: الْأُخْتَانِ يُوجِبَانِ الْحَجْبَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَخَوَانِ وَجَبَ أَنْ يَحْجُبَا أَيْضًا، إِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْأُخْتَيْنِ يَحْجُبَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا رَأَيْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَزَّلَ الِاثْنَيْنِ مِنَ النِّسَاءِ مَنْزِلَةَ الثَّلَاثَةِ فِي بَابِ الْمِيرَاثِ، أَلَا تَرَى أَنَّ نَصِيبَ الْبِنْتَيْنِ وَنَصِيبَ الثَّلَاثَةِ هُوَ الثُّلُثَانِ، وَأَيْضًا نَصِيبَ الْأُخْتَيْنِ مِنَ الْأُمِّ وَنَصِيبَ الثَّلَاثَةِ هُوَ الثُّلُثُ، فَهَذَا الِاسْتِقْرَاءُ يُوجِبُ أَنْ يَحْصُلَ الْحَجْبُ بِالْأُخْتَيْنِ، كَمَا أَنَّهُ حَصَلَ بِالْأَخَوَاتِ الثَّلَاثَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْأُخْتَيْنِ يَحْجُبَانِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute