قسم ثالث: وهم الذين لم يَجْزِمُ اللَّه تَعَالَى بِقَبُولِ تَوْبَتِهِمْ، وَلَمْ يَجْزِمْ بِرَدِّ تَوْبَتِهِمْ. فَلَمَّا كَانَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: هُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي: هُمُ الَّذِينَ لَا يَتُوبُونَ إِلَّا عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْبَأْسِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْقِسْمُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ: هُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ عَلَى سَبِيلِ الْعَمْدِ، ثُمَّ يَتُوبُونَ، فَهَؤُلَاءِ مَا أَخْبَرَ اللَّه عَنْهُمْ أَنَّهُ يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ، وَمَا أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُ يَرُدُّ تَوْبَتَهُمْ، بَلْ تَرَكَهُمْ فِي الْمَشِيئَةِ، كَمَا أَنَّهُ تَعَالَى تَرَكَ مَغْفِرَتَهُمْ فِي الْمَشِيئَةِ حَيْثُ قَالَ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ مَنْ تَابَ عِنْدَ حُضُورِ عَلَامَاتِ الْمَوْتِ وَمُقَدِّمَاتِهِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ قَالَ:
وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ الَّذِينَ قَرُبَ مَوْتُهُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَمَا أَنَّ التَّوْبَةَ عَنِ الْمَعَاصِي لَا تُقْبَلُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ، كَذَلِكَ الْإِيمَانُ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ. الثَّانِي: الْمُرَادُ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ فَلَوْ تَابُوا فِي الْآخِرَةِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَعَلَّقَتِ الْوَعِيدِيَّةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ:
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ/ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فَعَطَفَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ عَلَى الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ، وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الطَّائِفَةَ الْأُولَى لَيْسُوا مِنَ الْكُفَّارِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي حَقِّ الْكُلِّ: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً فَهَذَا يَقْتَضِي شُمُولَ هَذَا الْوَعِيدِ لِلْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُمْ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ، فَلَوْ كَانَ يَغْفِرُ لَهُمْ مَعَ تَرْكِ التَّوْبَةِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْإِعْلَامِ مَعْنًى.
وَالْجَوَابُ: أَنَّا قَدْ جَمَعْنَا جُمْلَةَ الْعُمُومَاتِ الْوَعِيدِيَّةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: ٨١] وَأَجَبْنَا عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِهَا وَذَكَرْنَا وُجُوهًا كَثِيرَةً مِنَ الْأَجْوِبَةِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِعَادَتِهَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ، ثُمَّ نَقُولُ الضَّمِيرُ يَجِبُ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَقْرَبِ الْمَذْكُورَاتِ، وَأَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً هُوَ قَوْلُهُ: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً عَائِدًا إِلَى الْكُفَّارِ فَقَطْ، وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنِ الَّذِينَ لَا يَتُوبُونَ إِلَّا عِنْدَ الْمَوْتِ أَنَّ تَوْبَتَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْكَافِرِينَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَبَيَّنَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْكَافِرَ أَقْبَحُ فِعْلًا وَأَخَسُّ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّه مِنَ الْفَاسِقِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَخُصَّهُ بِمَزِيدِ إِذْلَالٍ وَإِهَانَةٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً مُخْتَصًّا بِالْكَافِرِينَ، بَيَانًا لِكَوْنِهِمْ مُخْتَصِّينَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ بِمَزِيدِ الْعُقُوبَةِ وَالْإِذْلَالِ.
أَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: مِمَّا عَوَّلُوا عَلَيْهِ: فَهُوَ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ، وَإِذَا كَانَ لَا تَوْبَةَ حَصَلَ هُنَاكَ تَجْوِيزُ الْعِقَابِ وَتَجْوِيزُ الْمَغْفِرَةِ، وَهَذَا لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ تَخْوِيفٍ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاءِ: ٤٨] عَلَى أَنَّ هَذَا تَمَسُّكٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَالْمُعْتَزِلَةُ لَا يَقُولُونَ بِهِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ عَلَى الَّذِينَ يَتُوبُونَ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ الْمَوْتِ، الْكُفَّارَ، وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِكَافِرٍ، وَيَبْطُلُ بِهِ قَوْلُ الْخَوَارِجِ: إِنَّ الْفَاسِقَ كَافِرٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُنَافِقُ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْمُنَافِقَ كَافِرٌ، قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [الْمُنَافِقُونَ: ١] واللَّه أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute