للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَعِنْدَ حُصُولِ النَّفْرَةِ الشَّدِيدَةِ يَحْصُلُ التَّطْلِيقُ وَالْفِرَاقُ، أَمَّا إِذَا حَصَلَتِ الْمَحْرَمِيَّةُ انْقَطَعَتِ الْأَطْمَاعُ وَانْحَبَسَتِ الشَّهْوَةُ، فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الضَّرَرُ، فَبَقِيَ النِّكَاحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ سَلِيمًا عَنْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حُكْمِ الشَّرْعِ بِهَذِهِ الْمَحْرَمِيَّةِ، السَّعْيُ فِي تَقْرِيرِ الِاتِّصَالِ الْحَاصِلِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْمَحْرَمِيَّةِ إِبْقَاءَ ذَلِكَ الِاتِّصَالِ، فَمَعْلُومٌ/ أَنَّ الِاتِّصَالَ الْحَاصِلَ عِنْدَ النِّكَاحِ مَطْلُوبُ الْبَقَاءِ، فَيَتَنَاسَبُ حُكْمُ الشَّرْعِ بِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْمَحْرَمِيَّةِ، وَأَمَّا الِاتِّصَالُ الْحَاصِلُ عِنْدَ الزِّنَا فَهُوَ غَيْرُ مَطْلُوبِ الْبَقَاءِ، فَلَمْ يَتَنَاسَبْ حُكْمُ الشَّرْعِ بِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْمَحْرَمِيَّةِ، وَهَذَا وَجْهٌ مَقْبُولٌ مُنَاسِبٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَابَيْنِ، وَهَذَا هُوَ مِنْ قَوْلِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عِنْدَ مُنَاظَرَتِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ حَيْثُ قَالَ: وَطْءٌ حُمِدْتَ بِهِ، وَوَطْءٌ رُجِمْتَ بِهِ، فَكَيْفَ يَشْتَبِهَانِ؟

وَلْنَكْتَفِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ السبب في ذكر هذا الاستقصاء هاهنا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الرَّازِيَّ طَوَّلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي تَصْنِيفِهِ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ التَّطْوِيلُ إِلَّا تَطْوِيلًا فِي الْكَلِمَاتِ الْمُخْتَلِطَةِ وَالْوُجُوهِ الْفَاسِدَةِ الرَّكِيكَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْمُكَالَمَةِ مَعَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ أَسَاءَ فِي الْأَدَبِ وَتَعَدَّى طَوْرَهُ، وَخَاضَ فِي السَّفَاهَةِ وَتَعَامَى عَنْ تَقْرِيرِ دَلَائِلِهِ وَتَغَافَلَ عَنْ إِيرَادِ حُجَجِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ أَنْ كَتَبَ الْأَوْرَاقَ الْكَثِيرَةَ فِي التُّرَّهَاتِ الَّتِي لَا نَفْعَ لِمَذْهَبِهِ مِنْهَا وَلَا مَضَرَّةَ عَلَى خُصُومِهِ بِسَبَبِهَا، أَظْهَرَ الْقَدْحَ الشَّدِيدَ وَالتَّصَلُّفَ الْعَظِيمَ فِي كَثْرَةِ عُلُومِ أَصْحَابِهِ وَقِلَّةِ عُلُومِ مَنْ يُخَالِفُهُمْ، وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ التَّحْصِيلِ لَبَكَى عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي حَاوَلَ نُصْرَةَ قَوْلِهِ بِهَا، وَلَتَعَلَّمَ الدَّلَائِلَ مِمَّنْ كَانَ أَهْلًا لِمَعْرِفَتِهَا، وَمَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِنَا وَنَظَرَ فِي كِتَابِهِ وَأَنْصَفَ عَلِمَ أَنَّا أَخَذْنَا مِنْهُ خَرَزَةً، ثُمَّ جَعَلْنَاهَا لُؤْلُؤَةً مِنْ شِدَّةِ التَّخْلِيصِ وَالتَّقْرِيرِ ثُمَّ أَجَبْنَا عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ عَلَى قَوَانِينِ الْأُصُولِ، مُنْطَبِقَةٍ عَلَى قَوَاعِدِ الْفِقْهِ، وَنَسْأَلُ اللَّه حُسْنَ الْخَاتِمَةِ وَدَوَامَ التَّوْفِيقِ وَالنُّصْرَةَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَحْسَنُهَا: مَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ صَاحِبُ حَلِّ الْمُقِلِّ فَقَالَ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ عَلَى طَرِيقِ الْمَعْنَى لِأَنَّ قوله: وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هَذَا كَمَا اسْتَثْنَى «غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ» مِنْ قَوْلِهِ: «وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ» يَعْنِي إِنْ أَمْكَنَكُمْ أَنْ تَنْكِحُوا مَا قَدْ سَلَفَ فَانْكِحُوهَ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكُمْ غَيْرُهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَالْغَرَضُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَحْرِيمِهِ وَسَدُّ الطَّرِيقِ إِلَى إِبَاحَتِهِ، كَمَا يُقَالُ: حَتَّى يَبْيَضَّ الْقَارُ، وَحَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ. الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْمَاضِي مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْمَعْنَى: لَكِنَّ مَا قَدْ سَلَفَ فَإِنَّ اللَّه تَجَاوَزَ عَنْهُ. والرابع: «إلا» هاهنا بِمَعْنَى بَعْدَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدُّخَانِ: ٥٦] أَيْ بَعْدَ الْمَوْتَةِ الْأُولَى. الْخَامِسُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ فَإِنَّكُمْ مُقِرُّونَ عَلَيْهِ، قَالُوا: إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِنَّ مُدَّةً ثُمَّ أَمَرَ بِمُفَارَقَتِهِنَّ. وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ إِخْرَاجُهُمْ عَنْ هَذِهِ الْعَادَةِ الرَّدِيئَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصلاة والسلام ما أقر أحد عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةِ أَبِيهِ، / وَإِنْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

رَوَى الْبَرَاءُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا بُرْدَةَ إِلَى رَجُلٍ عَرَّسَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ لِيَقْتُلَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى هَذَا النِّكَاحِ قَبْلَ النَّهْيِ، أَعْلَمَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ هَذَا الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ كَانَ لَمْ يَزَلْ مُنْكَرًا فِي قُلُوبِهِمْ مَمْقُوتًا عِنْدَهُمْ،

<<  <  ج: ص:  >  >>