للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَدْفَعُوا الْمَالَ إِلَى الْحَلِيفِ، بَلْ إِلَى الْمَوْلَى وَالْوَارِثِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا نَسْخَ فِي الْآيَةِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ. الثَّانِي: الْمُرَادُ بِالَّذِينِ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ: الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ، وَالنِّكَاحُ يُسَمَّى عَقْدًا قَالَ تَعَالَى:

وَلا تَعْزِمُوا/ عُقْدَةَ النِّكاحِ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٥] فَذَكَرَ تَعَالَى الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَذَكَرَ مَعَهُمُ الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ، وَنَظِيرُهُ آيَةُ الْمَوَارِيثِ فِي أَنَّهُ لَمَّا بَيَّنَ مِيرَاثَ الْوَلَدِ وَالْوَالِدَيْنِ ذَكَرَ مَعَهُمْ مِيرَاثَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا نَسْخَ فِي الْآيَةِ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: والذين عاقدت أَيْمَانُكُمْ الْمِيرَاثَ الْحَاصِلَ بِسَبَبِ الْوَلَاءِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا نَسْخَ أَيْضًا. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ المراد من الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ الْحُلَفَاءَ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ النُّصْرَةَ وَالنَّصِيحَةَ وَالْمُصَافَاةَ فِي الْعِشْرَةِ، وَالْمُخَالَصَةَ فِي الْمُخَالَطَةِ، فَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ التَّوَارُثَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا نَسْخَ أَيْضًا. الْخَامِسُ: نُقِلَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَفِي ابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ حَلَفَ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَلَا يُوَرِّثَهُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ، فَلَمَّا أَسْلَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَمَرَهُ اللَّه أَنْ يُؤْتِيَهُ نَصِيبَهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا نَسْخَ أَيْضًا.

السَّادِسُ: قَالَ الْأَصَمُّ: إِنَّهُ نَصِيبٌ عَلَى سَبِيلِ التُّحْفَةِ وَالْهَدِيَّةِ بِالشَّيْءِ الْقَلِيلِ، كَمَا أَمَرَ تَعَالَى لِمَنْ حَضَرَ الْقِسْمَةَ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ نَصِيبٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ حسنة محتملة واللَّه أعلم بمراده.

المسألة الرابعة: القائلون بأن قوله: والذين عاقدت أَيْمَانُكُمْ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرَهُ قَوْلُهُ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ قَالُوا: إِنَّمَا جَاءَ خَبَرُهُ مَعَ الْفَاءِ لِتَضَمُّنِ «الَّذِي» مَعْنَى الشَّرْطِ فَلَا جَرَمَ وَقَعَ خَبَرُهُ مَعَ الْفَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يكون منصوبا على قولك: زيدا فاضربه.

المسألة الْخَامِسَةُ: قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: لَا يَرِثُ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ مِنَ الْأَعْلَى. وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ قَالَ: يَرِثُ، لِمَا

رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ، فَمَاتَ الْمُعْتِقُ وَلَمْ يَتْرُكْ إِلَّا الْمُعْتَقَ،

فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيرَاثَهُ لِلْغُلَامِ الْمُعْتَقِ، وَلِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: والذين عاقدت أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ.

وَالْجَوَابُ عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْحَدِيثِ: أَنَّهُ لَعَلَّ ذَلِكَ الْمَالَ لَمَّا صَارَ لِبَيْتِ الْمَالِ دَفَعَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى ذَلِكَ الْغُلَامِ لِحَاجَتِهِ وَفَقْرِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ مَالًا لَا وَارِثَ لَهُ، فَسَبِيلُهُ أَنْ يُصْرَفَ إِلَى الْفُقَرَاءِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ وَعَاقَدَهُ ثُمَّ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ، أَنَّهُ لَا يَرِثُهُ بَلْ مِيرَاثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: يَرِثُهُ حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ وَلِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا تَرَكَهُ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَاقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ، فَقَدْ جَعَلْنَا لَهُ مَوَالِيَ وَهُمُ الْعُصْبَةُ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْعُصْبَةُ إِمَّا الْخَاصَّةُ وَهُمُ الْوَرَثَةُ، وَإِمَّا الْعَامَّةُ وَهُمْ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ، فَوَجَبَ صَرْفُ هَذَا الْمَالِ إِلَى الْعُصْبَةِ الْعَامَّةِ مَا لَمْ تُوجَدِ الْعُصْبَةُ الْخَاصَّةُ، وَاحْتَجَّ/ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ لِقَوْلِهِ بِأَنَّ الْآيَةَ تُوجِبُ الْمِيرَاثَ لِلَّذِي وَالَاهُ وَعَاقَدَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى نَسَخَهُ بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأنفال: ٧٥] فهذا النسخ إنما يحصل إذا وجد أولوا الْأَرْحَامِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدُوا لَزِمَ بَقَاءُ الْحُكْمِ كما كان.

<<  <  ج: ص:  >  >>