المسألة الثانية: في لفظة الصَّلَاةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَسْجِدُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَسْجِدِ مُحْتَمَلٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ لَا تَقْرَبُوا مَوْضِعَ الصَّلَاةِ، وَحَذْفُ الْمُضَافِ مُجَازٌ شَائِعٌ، وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ [الْحَجِّ: ٤٠] وَالْمُرَادُ بِالصَّلَوَاتِ مَوَاضِعُ الصَّلَوَاتِ، فَثَبَتَ أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الصَّلَاةِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَسْجِدُ جَائِزٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَفْسُ الصَّلَاةِ، أَيْ لَا تُصَلُّوا إِذَا كُنْتُمْ سُكَارَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ فَائِدَةَ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى: لَا تَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْجُنُبِ الْعُبُورُ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فَيَكُونُ الْمَعْنَى: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى، وَلَا تَقْرَبُوهَا حَالَ كَوْنِكُمْ جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ، وَالْمُرَادُ بِعَابِرِ السَّبِيلِ الْمُسَافِرُ، فَيَكُونُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْجُنُبِ الْإِقْدَامُ عَلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَاءِ. قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: هَذَا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَرْجَحُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَالَ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَالْقُرْبُ وَالْبُعْدُ لَا يَصِحَّانِ عَلَى نَفْسِ الصَّلَاةِ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِيقَةِ، إِنَّمَا يَصِحَّانِ عَلَى الْمَسْجِدِ. الثَّانِي: أَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا قُلْنَا لَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ صَحِيحًا، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَا قُلْتُمْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا، لَأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَابِرَ سَبِيلٍ وَقَدْ عَجَزَ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ الشَّدِيدِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى. الثَّالِثُ: أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا عَابِرَ السَّبِيلِ عَلَى الْجُنُبِ الْمُسَافِرِ، فَهَذَا إِنْ كَانَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْقُرْبُ مِنَ الصَّلَاةِ الْبَتَّةَ، فَحِينَئِذٍ يُحْتَاجُ إِلَى إِضْمَارِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْآيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِدًا لِلْمَاءِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الصَّلَاةُ إِلَّا مَعَ التَّيَمُّمِ، فَيُفْتَقَرُ إِلَى إِضْمَارِ هَذَا الشَّرْطِ فِي الْآيَةِ، وَأَمَّا عَلَى مَا قُلْنَاهُ فَإِنَّا لَا نَفْتَقِرُ إِلَى إِضْمَارِ شَيْءٍ فِي الْآيَةِ فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى. الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ حُكْمَ السَّفَرِ وَعَدَمِ الْمَاءِ، وَجَوَازِ التَّيَمُّمِ بَعْدَ هَذَا، فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ هَذَا/ عَلَى حُكْمٍ مَذْكُورٍ فِي آيَةٍ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالَّذِي يُؤَكِّدُهُ أَنَّ الْقُرَّاءَ كُلَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْوَقْفَ عِنْدَ قَوْلِهِ: حَتَّى تَغْتَسِلُوا ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ قَوْلَهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى لِأَنَّهُ حُكْمٌ آخَرُ. وَأَمَّا إِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لَمْ نَحْتَجْ فِيهِ إِلَى هَذِهِ الْإِلْحَاقَاتِ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى.
وَلِمَنْ نَصَرَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ نَفْسُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَيْسَ فِيهِ قَوْلٌ مَشْرُوعٌ يَمْنَعُ السُّكْرَ مِنْهُ، أَمَّا الصَّلَاةُ فَفِيهَا أَقْوَالٌ مَخْصُوصَةٌ يَمْنَعُ السُّكْرَ مِنْهَا، فَكَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا أَوْلَى، وَلِلْقَائِلِ الْأَوَّلِ أَنْ يُجِيبَ بِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، فَمَا يُخِلُّ بِالصَّلَاةِ كَانَ كَالْمَانِعِ مِنَ الذَّهَابِ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلِهَذَا ذُكِرَ هَذَا الْمَعْنَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: السُّكَارَى جَمْعُ سَكْرَانَ، وَكُلُّ نَعْتٍ عَلَى فَعْلَانَ فَإِنَّهُ يُجْمَعُ عَلَى:
فَعَالَى وَفُعَالَى، مِثْلَ كَسَالَى وَكُسَالَى، وَأَصْلُ السَّكَرِ فِي اللُّغَةِ سَدُّ الطَّرِيقِ، وَمِنْ ذَلِكَ سَكْرُ الْبَثْقِ وَهُوَ سَدُّهُ، وَسَكِرَتْ عَيْنُهُ سُكْرًا إِذَا تَحَيَّرَتْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا [الْحِجْرِ: ١٥] أَيْ غُشِيَتْ فليس
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute