يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْمَعْ، وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: لَا سَمِعْتَ، فَقَوْلُهُ: غَيْرَ مُسْمَعٍ مَعْنَاهُ: غَيْرَ سَامِعٍ، فَإِنَّ السَّامِعَ مُسْمَعٌ، وَالْمُسْمَعَ سَامِعٌ. الثَّانِي: غَيْرَ مُسْمَعٍ، أَيْ غَيْرَ مَقْبُولٍ مِنْكَ، وَلَا تُجَابُ إِلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ، وَمَعْنَاهُ غَيْرَ مُسْمَعٍ جَوَابًا يُوَافِقُكَ، فَكَأَنَّكَ مَا أَسْمَعْتَ شَيْئًا. الثَّالِثُ: اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ كَلَامًا تَرْضَاهُ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَسْمَعُهُ لِنُبُوِّ سَمْعِهِ عَنْهُ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِلذَّمِّ وَالْمَدْحِ، فَكَانُوا يَذْكُرُونَهَا لِغَرَضِ الشَّتْمِ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: مِنْ ضَلَالَاتِهِمْ قَوْلُهُمْ: وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ أَمَّا تَفْسِيرُ راعِنا فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذِهِ كَلِمَةٌ كَانَتْ تَجْرِي بَيْنَهُمْ عَلَى جِهَةِ الْهُزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ، فَلِذَلِكَ نَهَى الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَتَلَفَّظُوا بِهَا فِي حَضْرَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الثَّانِي: / قَوْلُهُ: راعِنا مَعْنَاهُ أَرْعِنَا سَمْعَكَ، أَيِ اصْرِفْ سَمْعَكَ إِلَى كَلَامِنَا وَأَنْصِتْ لِحَدِيثِنَا وَتَفَهَّمْ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُخَاطَبُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، بَلْ إِنَّمَا يُخَاطَبُونَ بِالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ. الثَّالِثُ: كَانُوا يَقُولُونَ رَاعِنَا وَيُوهِمُونَهُ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَرْعِنَا سَمْعَكَ، وَكَانُوا يُرِيدُونَ سَبَّهُ بِالرُّعُونَةِ فِي لُغَتِهِمْ. الرَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ حَتَّى يَصِيرَ قَوْلُهُمْ: راعِنا رَاعَيْنَا، وَكَانُوا يُرِيدُونَ أَنَّكَ كُنْتَ تَرْعَى أَغْنَامًا لَنَا، وَقَوْلُهُ: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَصْلُ «لَيًّا» لَوْيًا، لِأَنَّهُ مَنْ لَوَيْتُ، وَلَكِنَّ الْوَاوَ أُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ لِسَبْقِهَا بِالسُّكُونِ، وَمِثْلُهُ الطَّيُّ وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَرَّاءُ كَانُوا يَقُولُونَ: رَاعِنَا وَيُرِيدُونَ بِهِ الشَّتْمَ، فَذَاكَ هُوَ اللَّيُّ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: غَيْرَ مُسْمَعٍ وَأَرَادُوا بِهِ لَا سَمِعْتَ، فَهَذَا هُوَ اللَّيُّ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَصِلُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا يُضْمِرُونَهُ مِنَ الشَّتْمِ إِلَى مَا يُظْهِرُونَهُ مِنَ التَّوْقِيرِ عَلَى سَبِيلِ النِّفَاقِ.
الثَّالِثُ: لعلهم كانوا يفتلون أشداقهم وألسنتهم عن ذِكْرِ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى سَبِيلِ السُّخْرِيَةِ، كَمَا جرت عادة من يهزأ بإنسان بمثل هذا الْأَفْعَالِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُقْدِمُونَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِطَعْنِهِمْ فِي الدِّينِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لِأَصْحَابِهِمْ: إِنَّمَا نَشْتُمُهُ وَلَا يَعْرِفُ، وَلَوْ كَانَ نَبِيًّا لَعَرَفَ ذَلِكَ، فَأَظْهَرَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ فَعَرَّفَهُ خُبْثَ ضَمَائِرِهِمْ، فَانْقَلَبَ مَا فَعَلُوهُ طَعْنًا فِي نُبُوَّتِهِ دَلَالَةً قَاطِعَةً عَلَى نُبُوَّتِهِ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْغَيْبِ مُعْجِزٌ.
فَإِنْ قيل: كيف جاءوا بالقول المحتمل للوجهين بعد ما حَرَّفُوا، وَقَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا حَكَيْنَا عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُمْ مَا كَانُوا يُظْهِرُونَ قَوْلَهُمْ:
وَعَصَيْنا بَلْ كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ. وَالثَّانِي: هَبْ أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ جَمِيعَ الْكَفَرَةِ كَانُوا يُوَاجِهُونَهُ بِالْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، وَلَا يُوَاجِهُونَهُ بِالسَّبِّ وَالشَّتْمِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا بَدَلَ قَوْلِهِمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا، سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا لِعِلْمِهِمْ بِصِدْقِكَ وَلِإِظْهَارِكَ الدَّلَائِلَ وَالْبَيِّنَاتِ مَرَّاتٍ بَعْدَ مَرَّاتٍ، وَبَدَلَ قَوْلِهِمْ: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ قَوْلَهُمْ وَاسْمَعْ، وَبَدَلَ قَوْلِهِمْ: راعِنا قَوْلَهُمْ: انْظُرْنا أَيِ اسْمَعْ مِنَّا مَا نَقُولُ، وَانْظُرْنَا حَتَّى نَتَفَهَّمَ عَنْكَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ عِنْدَ اللَّه وَأَقْوَمَ، أَيْ أَعْدَلَ وَأَصْوَبَ، وَمِنْهُ يُقَالُ: رُمْحٌ قَوِيمٌ أَيْ مُسْتَقِيمٌ، وَقَوَّمْتُ الشَّيْءَ مِنْ عِوَجٍ فَتَقَوَّمَ.
ثُمَّ قَالَ: وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا لَعَنَهُمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْقَلِيلَ صِفَةٌ لِلْقَوْمِ، وَالْمَعْنَى فَلَا يُؤْمِنُ مِنْهُمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute