للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الصلاة والسلام: فَاتَّبِعُوهُ وَهَذَا أَمْرٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُتَابَعَتَهُ وَاجِبَةٌ، وَالْمُتَابَعَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ فَعَلَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ يُوجِبُ الِاقْتِدَاءَ بِالرَّسُولِ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ، وَقَوْلَهُ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ يُوجِبُ الِاقْتِدَاءَ بِهِ فِي جَمِيعِ أَقْوَالِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا أَصْلَانِ مُعْتَبَرَانِ فِي الشَّرِيعَةِ.

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ لَا يُفِيدُ التِّكْرَارَ وَلَا الْفَوْرَ إِلَّا أَنَّهُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ يَصِحُّ مِنْهُ اسْتِثْنَاءُ أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، وَحُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ مُتَنَاوِلًا لِكُلِّ الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي التِّكْرَارَ، وَالتِّكْرَارُ يَقْتَضِي الْفَوْرَ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ لَصَارَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، لِأَنَّ الْوَقْتَ الْمَخْصُوصَ وَالْكَيْفِيَّةَ الْمَخْصُوصَةَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ، أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعُمُومِ كَانَتِ الْآيَةُ مُبِيِّنَةً، وَحَمْلُ كَلَامِ اللَّه عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَكُونُ مُبَيِّنًا أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بِهِ يَصِيرُ مُجْمَلًا مَجْهُولًا، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ، وَالتَّخْصِيصُ خَيْرٌ مِنَ الْإِجْمَالِ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: أَطِيعُوا اللَّهَ أَضَافَ لَفْظَ الطَّاعَةِ إِلَى لَفْظِ اللَّه، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ وُجُوبَ الطَّاعَةِ عَلَيْنَا لَهُ إِنَّمَا كَانَ لِكَوْنِنَا عَبِيدًا لَهُ وَلِكَوْنِهِ إِلَهًا، فَثَبَتَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْمَنْشَأَ لِوُجُوبِ الطَّاعَةِ هُوَ الْعُبُودِيَّةُ وَالرُّبُوبِيَّةُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي دَوَامَ وُجُوبِ الطَّاعَةِ عَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ/ وَهَذَا أَصْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ.

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: أَنَّهُ قَالَ: أَطِيعُوا اللَّهَ فَأَفْرَدَهُ فِي الذِّكْرِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَهَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّه سُبْحَانَهُ لِهَذَا الْأَدَبِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَجْمَعُوا فِي الذِّكْرِ بَيْنَ اسْمِهِ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ اسْمِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا إِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ فَيَجُوزُ ذَلِكَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وَهَذَا تَعْلِيمٌ لِهَذَا الْأَدَبِ، وَلِذَلِكَ

رُوِيَ أَنَّ وَاحِدًا ذُكِرَ عِنْدَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ: مَنْ أَطَاعَ اللَّه وَالرَّسُولَ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ عَصَاهُمَا فَقَدْ غَوَى، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ هَلَّا قُلْتَ مَنْ عَصَى اللَّه وَعَصَى رسوله»

أو لفظ هَذَا مَعْنَاهُ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الذِّكْرَيْنِ فِي اللَّفْظِ يُوهِمُ نَوْعَ مُنَاسَبَةٍ وَمُجَانَسَةٍ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ مُتَعَالٍ عَنْ ذَلِكَ.

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ فَنَقُولُ:

كَمَا أَنَّهُ دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَكَذَلِكَ دَلَّ عَلَى مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ فُرُوعِ الْقَوْلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ بَعْضَهَا:

الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: مَذْهَبُنَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا بِقَوْلِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يُمْكِنُهُمُ اسْتِنْبَاطُ أَحْكَامِ اللَّه مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُسَمَّوْنَ بِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ نَقُولُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ، وَالَّذِينَ لَهُمُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ فِي الشَّرْعِ لَيْسَ إِلَّا هَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ الَّذِي لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِكَيْفِيَّةِ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنَ النُّصُوصِ لَا اعْتِبَارَ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَكَذَلِكَ الْمُفَسِّرُ وَالْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ، فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ أُولِي الْأَمْرِ حُجَّةٌ علمنا دلالة الآية على أنه يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْعَامِّيَّ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ مِنَ الظَّاهِرِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أُولِي الْأَمْرِ.

الْفَرْعُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْحَاصِلَ عَقِيبَ الْخِلَافِ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ؟ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَالدَّلِيلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>