للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِلَى وَثَنٍ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهِ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ يُتَرْجِمُ الْأَبَاطِيلَ عَنِ الْوَثَنِ، فَالْمُرَادُ بِالطَّاغُوتِ هُوَ ذَلِكَ الرَّجُلُ.

الرِّوَايَةُ الرَّابِعَةُ: كَانُوا يَتَحَاكَمُونَ إِلَى الْأَوْثَانِ، وَكَانَ طَرِيقُهُمْ أَنَّهُمْ يَضْرِبُونَ الْقِدَاحَ بِحَضْرَةِ الْوَثَنِ، فَمَا خَرَجَ عَلَى الْقِدَاحِ عَمِلُوا بِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالطَّاغُوتُ هُوَ الْوَثَنُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ، ثُمَّ قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُنَافِقًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، مِثْلَ أَنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ عَلَى سَبِيلِ النِّفَاقِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:

يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّمَا يَلِيقُ بِمِثْلِ هَذَا الْمُنَافِقِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَقْصُودُ الْكَلَامِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ أَرَادَ أَنْ يَتَحَاكَمَ إِلَى بَعْضِ أَهْلِ الطُّغْيَانِ وَلَمْ يُرِدِ التَّحَاكُمَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّحَاكُمُ إِلَى هَذَا الطَّاغُوتِ كَالْكُفْرِ، وَعَدَمُ الرِّضَا بِحُكْمِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُفْرٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ فَجَعَلَ التَّحَاكُمَ إِلَى الطَّاغُوتِ يَكُونُ إِيمَانًا بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالطَّاغُوتِ كُفْرٌ باللَّه، كما أن الكفر بالطغوت إِيمَانٌ باللَّه. الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النِّسَاءِ: ٦٥] وَهَذَا نَصٌّ فِي تَكْفِيرِ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.

الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النُّورِ: ٦٣] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُخَالَفَتَهُ مَعْصِيَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ دَلَائِلُ عَلَى أَنَّ مَنْ رَدَّ شَيْئًا مِنْ أَوَامِرِ اللَّه أَوْ أَوَامِرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْإِسْلَامِ، سَوَاءٌ رَدَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّكِّ أَوْ مِنْ جِهَةِ التَّمَرُّدِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ صِحَّةَ مَا ذَهَبَتِ الصَّحَابَةُ إِلَيْهِ مِنَ الْحُكْمِ بِارْتِدَادِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَقَتْلِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُفْرَ الْكَافِرِ لَيْسَ بِخَلْقِ اللَّه وَلَا بِإِرَادَتِهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ خَلَقَ اللَّه الْكُفْرَ فِي الْكَافِرِ وَأَرَادَهُ مِنْهُ فَأَيُّ تَأْثِيرٍ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ تَأْثِيرٌ فَلِمَ ذَمَّهُ عَلَيْهِ؟ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ الشَّيْطَانَ بِسَبَبِ أَنَّهُ يُرِيدُ هَذِهِ الضَّلَالَةَ؟ فَلَوْ كَانَ تَعَالَى مُرِيدًا لَهَا لَكَانَ هُوَ بِالذَّمِّ أَوْلَى مِنْ حَيْثُ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَابَ شَيْئًا ثُمَّ فَعَلَهُ كَانَ بِالذَّمِّ أَوْلَى قَالَ تَعَالَى: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفِّ: ٣] الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ الْآيَةِ صَرِيحٌ فِي إِظْهَارِ التَّعَجُّبِ مِنْ أَنَّهُمْ كَيْفَ تَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ التَّحَاكُمُ بِخَلْقِ اللَّه لَمَا بَقِيَ التعجب، فانه يقال: إنما فعلوا لا جل أَنَّكَ خَلَقْتَ ذَلِكَ الْفِعْلَ فِيهِمْ وَأَرَدْتَهُ مِنْهُمْ، بَلِ التَّعَجُّبُ مِنْ هَذَا التَّعَجُّبِ أَوْلَى، فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِيهِمْ ثُمَّ أَخَذَ يَتَعَجَّبُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ كَيْفَ فَعَلُوا ذَلِكَ كَانَ التَّعَجُّبُ مِنْ هَذَا التَّعَجُّبِ أَوْلَى.

وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ يَرْجِعُ إِلَى التَّمَسُّكِ بِطَرِيقَةِ الْمَدْحِ أَوِ الذَّمِّ، وَقَدْ عَرَفْتَ مِنَّا أَنَّا لَا نَقْدَحُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إِلَّا بِالْمُعَارَضَةِ بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي واللَّه أَعْلَمُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً وفيه مسألتان:

<<  <  ج: ص:  >  >>