للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَخَلْتُ فِي غِمَارِ النَّاسِ، فَأَوَّلُ مَا سَمِعْتُ مِنْهُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصِلُوا الْأَرْحَامَ وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» .

وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ السَّلَامِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ فَوُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالُوا: تَحِيَّةُ النَّصَارَى وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْفَمِ، وَتَحِيَّةُ الْيَهُودِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ، وَتَحِيَّةُ الْمَجُوسِ الِانْحِنَاءُ، وَتَحِيَّةُ الْعَرَبِ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَنْ يَقُولُوا: حَيَّاكَ اللَّه، وَلِلْمُلُوكِ أَنْ يَقُولُوا: أَنْعِمْ صَبَاحًا، وَتَحِيَّةُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَنْ يَقُولُوا: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ التَّحِيَّةَ أَشْرَفُ التَّحِيَّاتِ وَأَكْرَمُهَا. الثَّانِي: أَنَّ السَّلَامَ مُشْعِرٌ بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْآفَاتِ وَالْبَلِيَّاتِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّعْيَ فِي تَحْصِيلِ الصَّوْنِ عَنِ الضَّرَرِ أَوْلَى مِنَ السَّعْيِ فِي تَحْصِيلِ النَّفْعِ.

الثَّالِثُ: أَنَّ الْوَعْدَ بِالنَّفْعِ يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ وَقَدْ لَا يَقْدِرُ، أَمَّا الْوَعْدُ بِتَرْكِ الضَّرَرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَادِرًا عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، وَالسَّلَامُ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّ السَّلَامَ أَفْضَلُ أَنْوَاعِ التَّحِيَّةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى الْحَاضِرِينَ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النُّورِ: ٢٧]

وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْشُوا السَّلَامَ»

وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. الثَّانِي: أَنَّ مَنْ دَخَلَ عَلَى إِنْسَانٍ كَانَ كَالطَّالِبِ لَهُ، ثُمَّ الْمَدْخُولُ عَلَيْهِ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَطْلُبُهُ لِخَيْرٍ أَوْ لِشَرٍّ، فَإِذَا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ فَقَدْ بَشَّرَهُ بِالسَّلَامَةِ وَآمَنَهُ مِنَ الْخَوْفِ، وَإِزَالَةُ الضَّرَرِ عَنِ الْمُسْلِمِ وَاجِبَةٌ

قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ يَدِهِ وَلِسَانِهِ»

فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ السَّلَامُ وَاجِبًا. الثَّالِثُ: أَنَّ السَّلَامَ مِنْ شَعَائِرَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَإِظْهَارُ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَاجِبٌ، وَأَمَّا الْمَشْهُورُ فَهُوَ أَنَّ السَّلَامَ سُنَّةٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالنَّخَعِيِّ.

وَأَمَّا الْجَوَابُ عَلَى السَّلَامِ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى/ وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها الثَّانِي: أَنَّ تَرْكَ الْجَوَابِ إِهَانَةٌ، وَالْإِهَانَةُ ضَرَرٌ وَالضَّرَرُ حَرَامٌ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مُنْتَهَى الْأَمْرِ فِي السَّلَامِ أَنْ يُقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ هُوَ الْوَارِدُ فِي التَّشَهُّدِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها فَقَالَ الْعُلَمَاءُ: الْأَحْسَنُ هُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكَ زِيدَ فِي جَوَابِهِ الرَّحْمَةُ، وَإِنْ ذَكَرَ السَّلَامَ وَالرَّحْمَةَ فِي الِابْتِدَاءِ زِيدَ فِي جَوَابِهِ الْبَرَكَةُ، وَإِنْ ذَكَرَ الثَّلَاثَةَ فِي الِابْتِدَاءِ أَعَادَهَا فِي الْجَوَابِ.

رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّه، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ. وَآخَرُ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّه، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ، وَجَاءَ ثَالِثٌ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: نَقَصْتَنِي، فَأَيْنَ قَوْلُ اللَّه: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ مَا تَرَكْتَ لِي فَضْلًا فَرَدَدْتُ عَلَيْكَ مَا ذَكَرْتَ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُبْتَدِئُ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَالْمُجِيبُ، يَقُولُ: وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ، هَذَا هُوَ التَّرْتِيبُ الْحَسَنُ، وَالَّذِي خَطَرَ بِبَالِي فِيهِ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ كَانَ الِابْتِدَاءُ وَاقِعًا بِذِكْرِ اللَّه، فَإِذَا قَالَ الْمُجِيبُ:

وَعَلَيْكُمُ السَّلَامُ كَانَ الِاخْتِتَامُ وَاقِعًا بِذِكْرِ اللَّه، وَهَذَا يُطَابِقُ قَوْلَهُ: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ [الْحَدِيدِ: ٣] وَأَيْضًا لَمَّا

<<  <  ج: ص:  >  >>