الثَّانِي: مَا كَانَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ ذَلِكَ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ حُرْمَةَ الْقَتْلِ كَانَتْ ثَابِتَةً مِنْ أَوَّلِ زَمَانِ التَّكْلِيفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: إِلَّا خَطَأً فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَالذَّاهِبُونَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ وَرَدَ عَلَى طَرِيقِ الْمَعْنَى، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ/ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُؤَاخِذُ الْإِنْسَانَ عَلَى الْقَتْلِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْقَتْلُ قَتْلَ خَطَأٍ فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ. الثَّانِي: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَحِيحٌ أَيْضًا عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا الْبَتَّةَ إِلَّا عِنْدَ الْخَطَأِ وَهُوَ مَا إِذَا رَأَى عَلَيْهِ شِعَارَ الْكُفَّارِ، أَوْ وَجَدَهُ فِي عَسْكَرِهِمْ فَظَنَّهُ مُشْرِكًا، فَهَهُنَا يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ، فَإِنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ كَافِرٌ مَعَ أَنَّهُ مَا كان كافر. الثَّالِثُ: أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا كَانَ مُؤْمِنٌ لِيَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مَرْيَمَ: ٣٥] تَأْوِيلُهُ: مَا كَانَ اللَّه لِيَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، إِنَّمَا يَنْفِي عَنْهُ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى: مَا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها [النَّمْلِ: ٦٠] مَعْنَاهُ مَا كُنْتُمْ لِتُنْبِتُوا، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ أَنْ يُنْبِتُوا الشَّجَرَ، إِنَّمَا نَفَى عَنْهُمْ أَنْ يُمْكِنَهُمْ إِنْبَاتَهَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِنْبَاتِ الشَّجَرِ. الرَّابِعُ: أَنَّ وَجْهَ الْإِشْكَالِ فِي حَمْلِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَهَذَا يَقْتَضِي الْإِطْلَاقَ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ إِنَّمَا يَلْزَمُ إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَقْتَضِي صَرْفَ الْحُكْمِ عَنِ الْمُسْتَثْنَى لَا صَرْفَ الْمَحْكُومِ بِهِ عَنْهُ، وَإِذَا كَانَ تَأْثِيرُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي صَرْفِ الْحُكْمِ فَقَطْ بَقِيَ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ لَا بِالنَّفْيِ وَلَا بِالْإِثْبَاتِ، وَحِينَئِذٍ يَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ لَيْسَ بِإِثْبَاتٍ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ وَلَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ»
وَيُقَالُ: لَا مُلْكَ إِلَّا بِالرِّجَالِ وَلَا رِجَالَ إِلَّا بِالْمَالِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي جُمْلَةِ هَذِهِ الصُّوَرِ لَا يُفِيدُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمُسْتَثْنَى مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتًا واللَّه أَعْلَمُ. الْخَامِسُ: قَالَ أَبُو هَاشِمٍ وَهُوَ أَحَدُ رُؤَسَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا فَيَبْقَى مُؤْمِنًا، إِلَّا أَنْ يَقْتُلَهُ خَطَأً فَيَبْقَى حِينَئِذٍ مُؤْمِنًا، قَالَ: وَالْمُرَادُ أَنَّ قَتْلَ الْمُؤْمِنِ لِلْمُؤْمِنِ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ خَطَأً فَإِنَّهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَهُوَ أَصْلٌ بَاطِلٌ، واللَّه أَعْلَمُ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى لَكِنْ، وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. قَالَ تَعَالَى: لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [النِّسَاءِ: ٢٩] وَقَالَ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النَّجْمِ: ٥٣] وَقَالَ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الْوَاقِعَةِ: ٢٥، ٢٦] واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ: خَطَأً وجوه: الأول: أنه مفعوله لَهُ، وَالتَّقْدِيرُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْتُلَهُ لِعِلَّةٍ مِنَ الْعِلَلِ، إِلَّا لِكَوْنِهِ خَطَأً. الثَّانِي: أَنَّهُ حَالٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا يَقْتُلُهُ الْبَتَّةَ إِلَّا حَالَ كَوْنِهِ خَطَأً. الثَّالِثُ: أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمَصْدَرِ وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا قَتْلًا خَطَأً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا.
وَفِي الْآيَةِ مسائل:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute