للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَقْرِيرِ كَلَامِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [الْبَقَرَةِ: ٨١] وَبَالَغْنَا فِي الْجَوَابِ عَنْهَا، وَزَعَمَ الْوَاحِدِيُّ أَنَّ الْأَصْحَابَ سَلَكُوا فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ طُرُقًا كَثِيرَةً. قَالَ: وَأَنَا لَا أَرْتَضِي شَيْئًا مِنْهَا لِأَنَّ الَّتِي ذَكَرُوهَا إِمَّا تَخْصِيصٌ، وَإِمَّا مُعَارَضَةٌ، وَإِمَّا إِضْمَارٌ، وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: وَالَّذِي اعْتَمَدَهُ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: إِجْمَاعُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي كَافِرٍ قَتَلَ مُؤْمِنًا ثُمَّ ذَكَرَ تِلْكَ الْقِصَّةَ. وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ مَعْنَاهُ الِاسْتِقْبَالُ أَيْ أَنَّهُ سَيُجْزَى بِجَهَنَّمَ، وَهَذَا وَعِيدٌ قَالَ: وَخُلْفُ الْوَعِيدِ كَرَمٌ، وَعِنْدَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْلِفَ اللَّه وَعِيدَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِمَّا قَالَهُ غَيْرُهُ.

وَأَقُولُ: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَضَعِيفٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ حَاصِلٌ، فَنُزُولُهُ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ لَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ الْعُمُومِ، فَيَسْقُطُ هَذَا الْكَلَامُ بِالْكُلِّيَّةِ، ثُمَّ نَقُولُ: كَمَا أَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَامًّا فِي كُلِّ قَاتِلٍ مَوْصُوفٍ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ، فكذا هاهنا وَجْهٌ آخَرُ يَمْنَعُ مِنْ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْكَافِرِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُجَاهَدَةِ مَعَ الْكُفَّارِ ثُمَّ عَلَّمَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ عِنْدَ اشْتِغَالِهِمْ بِالْجِهَادِ، فَابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النِّسَاءِ: ٩٢] فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَ كَفَّارَاتٍ: كَفَّارَةُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَكَفَّارَةُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ سُكُونِهِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَكَفَّارَةُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ سُكُونِهِ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَهْلِ الْعَهْدِ، ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ حُكْمَ قَتْلِ الْعَمْدِ مَقْرُونًا بِالْوَعِيدِ، فَلَمَّا كَانَ بَيَانُ حُكْمِ قَتْلِ الْخَطَأِ بَيَانًا لِحُكْمٍ اخْتَصَّ بِالْمُسْلِمِينَ كَانَ بَيَانُ حُكْمِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الَّذِي هُوَ كَالضِّدِّ لِقَتْلِ الْخَطَأِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا مُخْتَصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَصَّ بِهِمْ فَلَا أَقَلَّ مِنْ دُخُولِهِمْ فِيهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النِّسَاءِ: ٩٤] وَأَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي حَقِّ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَقَوْا قَوْمًا فَأَسْلَمُوا فَقَتَلُوهُمْ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَسْلَمُوا مِنَ الْخَوْفِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَهَذِهِ الْآيَةُ وَرَدَتْ فِي نَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ قَتْلِ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ وَهَذَا أَيْضًا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً نَازِلًا فِي نَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يَحْصُلَ التَّنَاسُبُ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهَا مَخْصُوصَةً بِالْكُفَّارِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لَهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْوَصْفِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ عَرَفْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [الْمَائِدَةِ: ٣٨] وَقَوْلَهُ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما [النُّورِ: ٢] الْمُوجِبَ لِلْقَطْعِ هُوَ السرقة، والموجب للجلد هو الزنا، / فكذا هاهنا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ لِهَذَا الْوَعِيدِ هُوَ هَذَا الْقَتْلُ الْعَمْدُ، لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ مُنَاسِبٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، فَلَزِمَ كَوْنُ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: أَيْنَمَا ثَبَتَ هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ يَحْصُلُ هَذَا الْحُكْمُ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ لَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ: الْآيَةُ مَخْصُوصَةٌ بِالْكَافِرِ وَجْهٌ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمَنْشَأَ لِاسْتِحْقَاقِ هَذَا الْوَعِيدِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْكُفْرُ أَوْ هَذَا الْقَتْلُ الْمَخْصُوصُ، فَإِنْ كَانَ مَنْشَأُ هَذَا الْوَعِيدِ هُوَ الْكُفْرَ كَانَ الْكُفْرُ حَاصِلًا قَبْلَ هَذَا الْقَتْلِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِهَذَا الْقَتْلِ أَثَرٌ الْبَتَّةَ فِي هَذَا الْوَعِيدِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ جَارِيَةً مَجْرَى مَا يُقَالُ: إِنَّ مَنْ يَتَعَمَّدُ قَتْلَ نَفْسٍ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا

<<  <  ج: ص:  >  >>