وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كُفْرٍ عَظِيمٍ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ قَالُوا فَعَلْنَا ذَلِكَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا رَاغِبِينَ فِي قَتْلِهِ مُجْتَهِدِينَ فِي ذَلِكَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ كُفْرٌ عَظِيمٌ.
فَإِنْ قِيلَ: الْيَهُودُ كَانُوا كَافِرِينَ بِعِيسَى أَعْدَاءً لَهُ عَامِدِينَ لِقَتْلِهِ يُسَمُّونَهُ السَّاحِرَ ابْنَ السَّاحِرَةِ وَالْفَاعِلَ ابْنَ الْفَاعِلَةِ، فَكَيْفَ قَالُوا: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّه؟
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَالُوهُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشُّعَرَاءِ: ٢٧] وَكَقَوْلِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ لمحمد صلى اللَّه عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحِجْرِ: ٦] ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَضَعَ اللَّه الذِّكْرَ الْحَسَنَ مَكَانَ ذِكْرِهِمُ الْقَبِيحَ فِي الْحِكَايَةِ عَنْهُمْ رَفْعًا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَمَّا كَانُوا يَذْكُرُونَهُ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْيَهُودِ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ قَتَلُوا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فاللَّه تَعَالَى كَذَّبَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى وَقَالَ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ شُبِّهَ مُسْنَدٌ إِلَى مَاذَا؟ إِنْ جَعَلْتَهُ مُسْنَدًا إِلَى الْمَسِيحِ فَهُوَ مُشَبَّهٌ بِهِ وَلَيْسَ بِمُشَبَّهٍ، وَإِنْ أَسْنَدْتَهُ إِلَى الْمَقْتُولِ فَالْمَقْتُولُ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ.
وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُسْنَدٌ إِلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ، وَهُوَ كَقَوْلِكَ: خُيِّلَ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَكِنْ وَقَعَ لَهُمُ الشَّبَهُ. الثَّانِي: أَنْ يُسْنَدَ إِلَى ضَمِيرِ الْمَقْتُولِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَما قَتَلُوهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ الْقَتْلُ عَلَى غَيْرِهِ فَصَارَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مَذْكُورًا بِهَذَا الطَّرِيقِ، فَحَسُنَ إِسْنَادُ شُبِّهَ إِلَيْهِ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى يُلْقِي شَبَهَ إِنْسَانٍ عَلَى إِنْسَانٍ آخَرَ فَهَذَا يَفْتَحُ بَابَ السَّفْسَطَةِ، فَإِنَّا إِذَا رَأَيْنَا زَيْدًا فَلَعَلَّهُ لَيْسَ بِزَيْدٍ، وَلَكِنَّهُ أُلْقِيَ شَبَهُ زَيْدٍ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ ذلك/ لا يبقى النكاح والطلاق والملك، وثوقا بِهِ، وَأَيْضًا يُفْضِي إِلَى الْقَدْحِ فِي التَّوَاتُرِ لِأَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ إِنَّمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِشَرْطِ انْتِهَائِهِ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الْمَحْسُوسِ، فَإِذَا جَوَّزْنَا حُصُولَ مِثْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي الْمَحْسُوسَاتِ تَوَجَّهَ الطَّعْنُ فِي التَّوَاتُرِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَدْحَ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، وَلَيْسَ لِمُجِيبٍ أَنْ يُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّا نَقُولُ: لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ فَذَاكَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ، فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ الدَّلِيلَ وَذَلِكَ الْبُرْهَانَ وَجَبَ أَنْ لَا يَقْطَعَ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ وَوَجَبَ أَنْ لَا يَعْتَمِدَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَأَيْضًا فَفِي زَمَانِنَا إِنِ انْسَدَّتِ الْمُعْجِزَاتُ فَطَرِيقُ الْكَرَامَاتِ مَفْتُوحٌ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الِاحْتِمَالُ الْمَذْكُورُ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ: وَبِالْجُمْلَةِ فَفَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُوجِبُ الطَّعْنَ فِي التَّوَاتُرِ، وَالطَّعْنُ فِيهِ يُوجِبُ الطَّعْنَ فِي نُبُوَّةِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَهَذَا فَرْعٌ يُوجِبُ الطَّعْنَ فِي الْأُصُولِ فَكَانَ مَرْدُودًا.
وَالْجَوَابُ: اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَكَرُوا وُجُوهًا:
الْأَوَّلُ: قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ: إِنَّ الْيَهُودَ لَمَّا قَصَدُوا قَتْلَهُ رَفَعَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ فَخَافَ رُؤَسَاءُ الْيَهُودِ مِنْ وُقُوعِ الْفِتْنَةِ مِنْ عَوَامِّهِمْ، فَأَخَذُوا إِنْسَانًا وَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ وَلَبَّسُوا عَلَى النَّاسِ أَنَّهُ الْمَسِيحُ، وَالنَّاسُ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْمَسِيحَ إِلَّا بِالِاسْمِ لِأَنَّهُ كَانَ قَلِيلَ الْمُخَالَطَةِ لِلنَّاسِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ زَالَ السُّؤَالُ. لَا يُقَالُ: إِنَّ النَّصَارَى