حَلَالٌ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا أَيْضًا. الْعَاشِرُ: مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: النَّصُبُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا وَأَنْ يَكُونَ وَاحِدًا، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ جَمْعٌ فَفِي وَاحِدِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ وَاحِدَهُ نِصَابٌ، فَقَوْلُنَا: نِصَابٌ وَنُصُبٌ كَقَوْلِنَا: حِمَارٌ وَحُمُرٌ. الثَّانِي: أَنَّ وَاحِدَهُ النَّصْبُ، فَقَوْلُنَا نَصْبُّ وَنُصُبٌ كَقَوْلِنَا: سَقْفٌ وَسُقُفٌ وَرَهْنٌ وَرُهُنٌ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ وَاحِدَهُ النَّصْبَةُ.
قَالَ اللَّيْثُ: النُّصُبُ جَمْعُ النَّصْبَةِ، وَهِيَ عَلَامَةٌ تُنْصَبُ لِلْقَوْمِ، أَمَّا إِنْ قُلْنَا: أَنَّ النُّصُبَ وَاحِدٌ فَجَمْعُهُ أَنْصَابٌ، فَقَوْلُنَا: نُصُبٌ وَأَنْصَابٌ كَقَوْلِنَا طُنُبٌ وَأَطْنَابٌ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَقَدْ جَعَلَ الْأَعْشَى النُّصُبَ وَاحِدًا فَقَالَ:
وَلَا النُّصُبُ الْمَنْصُوبُ لَا تُنْسِكَنَّهُ ... لِعَاقِبَةٍ واللَّه رَبَّكَ فَاعْبُدَا
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: النُّصُبُ هِيَ الْأَوْثَانُ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ هَذَا مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الذَّبْحُ عَلَى اسْمِ الْأَوْثَانِ، وَمِنْ حَقِّ الْمَعْطُوفِ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: النُّصُبُ لَيْسَ بِأَصْنَامٍ فَإِنَّ الْأَصْنَامَ أَحْجَارٌ مُصَوَّرَةٌ مَنْقُوشَةٌ، وَهَذِهِ النُّصُبُ أَحْجَارٌ كَانُوا يَنْصِبُونَهَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَكَانُوا يَذْبَحُونَ عِنْدَهَا لِلْأَصْنَامِ، وَكَانُوا يُلَطِّخُونَهَا بِتِلْكَ الدِّمَاءِ وَيَضَعُونَ اللُّحُومَ عَلَيْهَا، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا رَسُولَ اللَّه كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعَظِّمُونَ الْبَيْتَ بِالدَّمِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نُعَظِّمَهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِرْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها [الْحَجِّ: ٣٧] .
وَاعْلَمْ أَنَّ (مَا) فِي قَوْلِهِ وَما ذُبِحَ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ إِلَى قَوْلِهِ وَما أَكَلَ السَّبُعُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَمَا ذُبِحَ عَلَى اعْتِقَادِ تَعْظِيمِ النُّصُبِ، وَالثَّانِي: وَمَا ذُبِحَ لِلنُّصُبِ، وَ (اللَّامُ) وَ (عَلَى) يَتَعَاقَبَانِ، قَالَ تَعَالَى: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الْوَاقِعَةِ: ٩١] أَيْ فَسَلَامٌ عَلَيْكَ مِنْهُمْ، وَقَالَ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الْإِسْرَاءِ: ٧] أَيْ فَعَلَيْهَا.
النَّوْعُ الْحَادِيَ عَشَرَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّه: ذُكِرَ هَذَا فِي جُمْلَةِ الْمَطَاعِمِ لِأَنَّهُ مِمَّا أَبْدَعَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ مُوَافِقًا لِمَا كَانُوا فَعَلُوهُ فِي الْمَطَاعِمِ، وَذَلِكَ أَنَّ الذَّبْحَ عَلَى النُّصُبِ إِنَّمَا كَانَ يَقَعُ عِنْدَ الْبَيْتِ، وَكَذَا الِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ كَانُوا يُوقِعُونَهُ عِنْدَ الْبَيْتِ إِذَا كَانُوا هُنَاكَ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَوْ غَزْوًا أَوْ تِجَارَةً أَوْ نِكَاحًا أَوْ أَمْرًا آخَرَ مِنْ مَعَاظِمِ الْأُمُورِ ضَرَبَ بِالْقِدَاحِ، وَكَانُوا قَدْ كَتَبُوا عَلَى بَعْضِهَا: أَمَرَنِي رَبِّي، وَعَلَى بَعْضِهَا: نَهَانِي رَبِّي، وَتَرَكُوا بَعْضَهَا خَالِيًا عَنِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ خَرَجَ الْأَمْرُ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ، وَإِنْ خَرَجَ النَّهْيُ أَمْسَكَ، وَإِنْ خَرَجَ الْغُفْلُ أَعَادَ الْعَمَلَ مَرَّةً أُخْرَى، فَمَعْنَى الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ طَلَبُ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِوَاسِطَةِ ضَرْبِ الْقِدَاحِ. الثَّانِي: قَالَ الْمُؤَرِّجُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: الِاسْتِقْسَامُ هُنَا هُوَ الْمَيْسِرُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَالْأَزْلَامُ قِدَاحُ الْمَيْسِرِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ اخْتِيَارُ الْجُمْهُورِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَزْلَامُ الْقِدَاحُ وَاحِدُهَا زَلَمٌ، ذَكَرَهُ الْأَخْفَشُ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الْقِدَاحُ بِالْأَزْلَامِ لِأَنَّهَا زُلِّمَتْ أَيْ سُوِّيَتْ. وَيُقَالُ: رَجُلٌ مُزَلَّمٌ وَامْرَأَةٌ مُزَلَّمَةٌ إِذَا كَانَ خَفِيفًا قَلِيلَ الْعَلَائِقِ، وَيُقَالُ قَدَحٌ مُزَلَّمٌ وَزَلَمٌ إِذَا ظُرِفَ وَأُجِيدَ