الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ، أَوْ يُقَالُ: إِنَّا نَتْرُكُ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ لِوُرُودِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى خِلَافِهِ، قَالَ: أَمَّا الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ فَمَرْدُودَةٌ قَطْعًا، لِأَنَّا إِنْ جَوَّزْنَا ثُبُوتَ قُرْآنٍ غَيْرِ مَنْقُولٍ بِالتَّوَاتُرِ لَزِمَ الطَّعْنُ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا هُوَ الْآنَ بِكَثِيرٍ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّ مَعْرِفَةَ أَحْوَالِ الْوُضُوءِ مِنْ أَعْظَمِ مَا عَمَّ بِهِ الْبَلْوَى، وَمِنْ أَشَدِّ الْأُمُورِ الَّتِي يَحْتَاجُ كُلُّ أَحَدٍ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قُرْآنًا لَامْتَنَعَ بَقَاؤُهُ فِي حَيِّزِ الشُّذُوذِ، وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَقَالَ: هَذَا يَقْتَضِي نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
قَالَ الْفُقَهَاءُ: إِنَّ كَلِمَةَ (إِذَا) لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ بِدَلِيلِ أنه لو قال لا مرأته: إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْ مَرَّةً طُلِّقَتْ، ثُمَّ لَوْ دَخَلَتْ ثَانِيًا لَمْ تُطَلَّقْ ثَانِيًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى/ أَنَّ كَلِمَةَ (إِذَا) لَا تُفِيدُ الْعُمُومَ، وَأَيْضًا إِنَّ السَّيِّدَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إِذَا دَخَلْتَ السُّوقَ فَادْخُلْ عَلَى فُلَانٍ وَقُلْ لَهُ كَذَا وَكَذَا، فَهَذَا لَا يُفِيدُ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ دَاوُدَ فِي مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ غَيْرُ مَعْلُومٍ: فَلَعَلَّهُ يَلْتَزِمُ الْعُمُومَ، وَأَيْضًا فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ (إِذَا) فِي هَذِهِ الْآيَةِ تُفِيدُ الْعُمُومَ لِأَنَّ التَّكَالِيفَ الْوَارِدَةَ فِي الْقُرْآنِ مَبْنَاهَا عَلَى التَّكْرِيرِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الصُّوَرِ الَّتِي ذَكَرْتُمْ، فَإِنَّ الْقَرَائِنَ الظَّاهِرَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَبْنَى الْأَمْرِ فِيهَا عَلَى التَّكْرِيرِ، وَأَمَّا الْفُقَهَاءُ فَإِنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِمَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إِلَّا يَوْمَ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ صَلَّى الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ. قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: عَمْدًا فَعَلْتُ ذَلِكَ يَا عُمَرُ.
أَجَابَ دَاوُدُ بِأَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَنْسَخُ الْقُرْآنَ، وَأَيْضًا فَهَذَا الْخَبَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُوَاظِبًا عَلَى تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي وجوب ذلك علينا لقوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ [سبأ: ٢٠] بَقِيَ أَنْ يُقَالَ:
قَدْ جَاءَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ يَوْمَ الْفَتْحِ، فَنَقُولُ: لَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ فَالتَّرْجِيحُ مَعَنَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: هَبْ أَنَّ التَّجْدِيدَ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَكِنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَزِيدُ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ فِي الطَّاعَاتِ وَلَا يَنْقُصُ مِنْهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ هُوَ يَوْمُ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ، وَزِيَادَةُ النِّعْمَةِ مِنَ اللَّه تُنَاسِبُ زِيَادَةَ الطَّاعَاتِ لَا نُقْصَانَهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الِاحْتِيَاطَ لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ جَانِبِنَا فَيَكُونُ رَاجِحًا
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ» .
الثَّالِثُ: أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ أَوْلَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ دَلَالَةَ الْقُرْآنِ عَلَى قَوْلِنَا لَفْظِيَّةٌ، وَدَلَالَةَ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْتُمْ عَلَى قَوْلِكُمْ فِعْلِيَّةٌ، وَالدَّلَالَةُ الْقَوْلِيَّةُ أَقْوَى مِنَ الدَّلَالَةِ الْفِعْلِيَّةِ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ الْقَوْلِيَّةَ غَنِيَّةٌ عَنِ الْفِعْلِيَّةِ وَلَا يَنْعَكِسُ، فَهَذَا مَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ واللَّه أَعْلَمُ.
وَالْأَقْوَى فِي إِثْبَاتِ الْمَذْهَبِ الْمَشْهُورِ أَنْ يُقَالَ: لَوْ وَجَبَ الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَكَانَ الْمُوجِبُ لِلْوُضُوءِ هُوَ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ وَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ تَأْثِيرٌ فِي إِيجَابِ الْوُضُوءِ، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النِّسَاءِ: ٤٣] أَوْجَبَ التَّيَمُّمَ عَلَى الْمُتَغَوِّطِ وَالْمُجَامِعِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبًا لِوُجُوبِ الطَّهَارَةِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْوُضُوءِ قَدْ يَكُونُ بِسَبَبٍ آخَرَ سِوَى الْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ هَلْ تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْوُضُوءِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ؟ وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ فِعْلَ الصَّلَاةِ عَلَى الطَّهُورِ بِالْمَاءِ، ثُمَّ بَيَّنَ/ أَنَّهُ مَتَى عُدِمَ لَا تَصِحُّ إِلَّا بِالتَّيَمُّمِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا لَمَا صَحَّ ذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَمَرَ بِالصَّلَاةِ مَعَ الْوُضُوءِ، فَالْآتِي بِالصَّلَاةِ بِدُونِ