للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، فَنَحْنُ اعْتَبَرْنَا دَلَالَةَ هَذِهِ الْفَاءِ فِي الْأَصْلِ وَالتَّبَعِ، وَأَنْتُمْ أَلْغَيْتُمُوهَا فِي الْأَصْلِ وَاعْتَبَرْتُمُوهَا فِي التَّبَعِ، فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: وَقَعَتِ الْبَدَاءَةُ فِي الذِّكْرِ بِالْوَجْهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَقَعَ الْبَدَاءَةُ بِهِ فِي الْعَمَلِ لِقَوْلِهِ فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هُودٍ: ١١٢]

وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّه بِهِ»

وَهَذَا الْخَبَرُ وَإِنْ وَرَدَ فِي قِصَّةِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ إِلَّا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لَكِنَّ الْعَامَّ حُجَّةٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ لَا عَلَى وَفْقِ التَّرْتِيبِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْحِسِّ، وَلَا عَلَى وَفْقِ التَّرْتِيبِ الْمُعْتَبَرِ فِي الشَّرْعِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ. بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى أَنَّ التَّرْتِيبَ الْمُعْتَبَرَ فِي الْحِسِّ أَنْ يَبْدَأَ مِنَ الرَّأْسِ نَازِلًا إِلَى الْقَدَمِ، أَوْ مِنَ الْقَدَمِ صَاعِدًا إِلَى الرَّأْسِ، وَالتَّرْتِيبُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا التَّرْتِيبُ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ فَهُوَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأَعْضَاءِ الْمَغْسُولَةِ، وَيُفْرِدَ الْمَمْسُوحَةَ عَنْهَا، وَالْآيَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَدْرَجَ الْمَمْسُوحَ فِي أَثْنَاءِ الْمَغْسُولَاتِ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ إِهْمَالَ التَّرْتِيبِ فِي الْكَلَامِ مُسْتَقْبَحٌ، فَوَجَبَ تَنْزِيهُ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ، تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِيمَا إِذَا صَارَ ذَلِكَ مُحْتَمِلًا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّرْتِيبَ وَاجِبٌ، فَيَبْقَى فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ. الرَّابِعُ: أَنَّ إِيجَابَ الْوُضُوءِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَرَدَ فِي النَّصِّ، بَيَانُ الْمَقَامِ الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحَدَثَ يَخْرُجُ مِنْ مَوْضِعٍ وَالْغَسْلَ يَجِبُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْقُولِ، وَثَانِيهَا: أَنَّ أَعْضَاءَ الْمُحْدِثِ طَاهِرَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَةِ: ٢٨] وَكَلِمَةُ إِنَّمَا لِلْحَصْرِ،

وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ حَيًّا وَلَا مَيِّتًا»

وَتَطْهِيرُ الطَّاهِرِ مُحَالٌ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ التَّيَمُّمَ مَقَامَ الْوُضُوءِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ ضِدُّ النَّظَافَةِ وَالْوَضَاءَةِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَقَامَ/ الْغَسْلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْبَتَّةَ فِي نَفْسِ الْعُضْوِ نَظَافَةً، وَخَامِسُهَا: أَنَّ الْمَاءَ الْكَدِرَ الْعَفِنَ يُفِيدُ الطَّهَارَةَ، وَمَاءَ الْوَرْدِ لَا يُفِيدُهَا، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْوُضُوءَ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الِاعْتِمَادُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ التَّرْتِيبُ الْمَذْكُورُ مُعْتَبَرًا إِمَّا لِمَحْضِ التَّعَبُّدِ أَوْ لِحِكَمٍ خَفِيَّةٍ لَا نَعْرِفُهَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَوْجَبْنَا رِعَايَةَ التَّرْتِيبِ الْمُعْتَبَرِ الْمَذْكُورِ فِي أركان الصلاة، بل هاهنا أَوْلَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ فِي كِتَابِهِ مُرَتَّبَةً وَذَكَرَ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَرْتَبَةً فَلَمَّا وَجَبَ التَّرْتِيبُ هُنَاكَ فَهَهُنَا أَوْلَى.

وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِهِ فَقَالَ: الْوَاوُ لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ، فَكَانَتِ الْآيَةُ خَالِيَةً عَنْ إِيجَابِ التَّرْتِيبِ، فَلَوْ قُلْنَا بِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ، وَهُوَ نَسْخٌ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.

وَجَوَابُنَا: أَنَّا بَيَّنَّا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ مِنْ جِهَاتٍ أُخَرَ غَيْرِ التَّمَسُّكِ بِأَنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ التَّرْتِيبَ واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: مُوَالَاةُ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ لَيْسَتْ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ فِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّه: إِنَّهُ شَرْطٌ لَنَا أَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ هَذِهِ الْأَعْمَالَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِيجَابَهَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ إِيجَابِهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُوَالَاةِ وَإِيجَابِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّرَاخِي ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ يُفِيدُ حُصُولَ الطَّهَارَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ فَثَبَتَ أَنَّ الْوُضُوءَ بِدُونِ الْمُوَالَاةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>