للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خِلَافٍ إِنِ اقْتَصَرُوا عَلَى أَخْذِ الْمَالِ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إِنْ أَخَافُوا السُّبُلَ، وَالْقِيَاسُ الْجَلِيُّ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ الْعُدْوَانَ يُوجِبُ الْقَتْلَ، فَغَلَّظَ ذَلِكَ فِي قَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَصَارَ الْقَتْلُ حَتْمًا لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَأَخْذُ الْمَالِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَطْعُ فِي غَيْرِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ، فَغَلَّظَ ذَلِكَ فِي قَاطِعِ الطَّرِيقِ بِقَطْعِ الطَّرَفَيْنِ، وَإِنْ جَمَعُوا بَيْنَ الْقَتْلِ وَبَيْنَ أَخْذِ الْمَالِ جَمَعَ فِي حَقِّهِمْ بَيْنَ الْقَتْلِ وَبَيْنَ الصَّلْبِ، لِأَنَّ بَقَاءَهُ مَصْلُوبًا فِي مَمَرِّ الطَّرِيقِ يَكُونُ سَبَبًا لِاشْتِهَارِ إِيقَاعِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ زَاجِرًا لِغَيْرِهِ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَمَّا إِنِ اقْتَصَرَ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِخَافَةِ اقْتَصَرَ الشَّرْعُ مِنْهُ عَلَى عُقُوبَةٍ خَفِيفَةٍ وَهِيَ النَّفْيُ مِنَ الْأَرْضِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: إِذَا قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ. أَنْ يُقَتِّلَهُمْ فَقَطْ، أَوْ يُقَتِّلَهُمْ وَيُقَطِّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ قَبْلَ الْقَتْلِ، أَوْ يُقَتِّلَهُمْ وَيُصَلِّبَهُمْ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه: لَا بُدَّ مِنَ الصَّلْبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّه.

حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَى الصَّلْبِ كَمَا نَصَّ عَلَى الْقَتْلِ فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ الصَّلْبِ كَمَا لَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ الْقَتْلِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الصَّلْبِ، فَقِيلَ: يُصْلَبُ حَيًّا ثُمَّ يُزَجُّ بَطْنُهُ بِرُمْحٍ حَتَّى يَمُوتَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: يُقْتَلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصْلَبُ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ النَّفْيِ مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: مَعْنَاهُ إِنْ وَجَدَ هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ قَتَلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُمْ طَلَبَهُمْ أَبَدًا حَتَّى إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِمْ فَعَلَ بِهِمْ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ رَحِمَهُمَا اللَّه. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: النَّفْيُ مِنَ الْأَرْضِ هُوَ الْحَبْسُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ، قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ النَّفْيَ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ مَعَ بَقَاءِ الْحَيَاةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِخْرَاجُهُ مِنْ تِلْكَ الْبَلْدَةِ إِلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذَا النَّفْيِ دَفْعُ شَرِّهِ/ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَوْ أَخْرَجْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ لَاسْتَضَرَّ بِهِ مَنْ كَانَ هُنَاكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِخْرَاجَهُ إِلَى دَارِ الْكُفْرِ وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ إِخْرَاجَ الْمُسْلِمِ إِلَى دَارِ الْكُفْرِ تَعْرِيضٌ لَهُ بِالرِّدَّةِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَلَمَّا بَطَلَ الْكُلُّ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ النَّفْيِ نَفْيَهُ عَنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ إِلَّا مَكَانَ الْحَبْسِ. قَالُوا: وَالْمَحْبُوسُ قَدْ يُسَمَّى مَنْفِيًّا مِنَ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِشَيْءٍ مِنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، وَلَا يَرَى أَحَدًا مِنْ أَحْبَابِهِ، فَصَارَ مَنْفِيًّا عَنْ جَمِيعِ اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَالطَّيِّبَاتِ فَكَانَ كَالْمَنْفِيِّ فِي الْحَقِيقَةِ. وَلَمَّا حَبَسُوا صَالِحَ بْنَ عَبْدِ الْقُدُّوسِ عَلَى تُهْمَةِ الزَّنْدَقَةِ فِي حَبْسٍ ضَيِّقٍ وَطَالَ لُبْثُهُ هناك ذَكَرَ شِعْرًا، مِنْهُ قَوْلُهُ:

خَرَجْنَا عَنِ الدُّنْيَا وعن وصل أهلها ... فلسنا من الأحياء وَلَسْنَا مِنَ الْمَوْتَى

إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ ... عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا

قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: هَذَا النَّفْيُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مَحْمُولٌ عَلَى وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ إِذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ فَالْإِمَامُ إِنْ أَخَذَهُمْ أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحَدَّ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُمْ طَلَبَهُمْ أَبَدًا فَكَوْنُهُمْ خَائِفِينَ مِنَ الْإِمَامِ هَارِبِينَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ النَّفْيِ. الثَّانِي: الْقَوْمُ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ الْوَاقِعَةَ وَيُكْثِرُونَ جَمْعَ هَؤُلَاءِ الْمُحَارِبِينَ وَيُخِيفُونَ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنَّهُمْ مَا قَتَلُوا وَمَا أَخَذُوا الْمَالَ فَالْإِمَامُ إِنْ أَخَذَهُمْ أَقَامَ عَلَيْهِمُ الْحَدَّ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُمْ طلبهم أبدا. فيقول الشافعي هاهنا: إِنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُهُمْ وَيُعَزِّرُهُمْ وَيَحْبِسُهُمْ، فَالْمُرَادُ بِنَفْيِهِمْ عن الأرض

<<  <  ج: ص:  >  >>