للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهاهنا قَوْلٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيَّ رَحِمَهُ اللَّه زَعَمَ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ أَنَّ الْيَدَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّه تَعَالَى، وَهِيَ صِفَةٌ سِوَى الْقُدْرَةِ مِنْ شَأْنِهَا التَّكْوِينُ عَلَى سبيل الاصطفاء وقال: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ وُقُوعَ خَلْقِ آدَمَ بِيَدَيْهِ عِلَّةً لِكَرَامَةِ آدَمَ وَاصْطِفَائِهِ، فَلَوْ كَانَتِ الْيَدُ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ لَامْتَنَعَ كَوْنُهُ عِلَّةً لِلِاصْطِفَاءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ فِي جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ صِفَةٍ أُخْرَى وَرَاءَ الْقُدْرَةِ يَقَعُ بِهَا الْخَلْقُ وَالتَّكْوِينُ عَلَى سَبِيلِ الِاصْطِفَاءِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ زَعَمُوا أَنَّ الْيَدَ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ وَعَنِ النِّعْمَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: إِنْ فَسَّرْتُمُ الْيَدَ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ فَهَذَا مُشْكَلٌ لِأَنَّ قُدْرَةَ اللَّه تَعَالَى وَاحِدَةٌ وَنَصُّ الْقُرْآنِ نَاطِقٌ بِإِثْبَاتِ الْيَدَيْنِ تَارَةً، وَبِإِثْبَاتِ الْأَيْدِي أُخْرَى، وَإِنْ فَسَّرْتُمُوهَا بِالنِّعْمَةِ فَنَصُّ الْقُرْآنِ نَاطِقٌ بِإِثْبَاتِ الْيَدَيْنِ، وَنِعَمُ اللَّه غَيْرُ مَحْدُودَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: ٣٤] [النحل: ١٨] .

وَالْجَوَابُ: إِنِ اخْتَرْنَا تَفْسِيرَ الْيَدِ بِالْقُدْرَةِ كَانَ الْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْقَوْمَ جَعَلُوا قَوْلَهُمْ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ كِنَايَةً عَنِ الْبُخْلِ، فَأُجِيبُوا عَلَى وَفْقِ كَلَامِهِمْ، فَقِيلَ بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتُمُوهُ بِهِ مِنَ الْبُخْلِ، بَلْ هُوَ جَوَادٌ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ. فَإِنَّ مَنْ أَعْطَى بِيَدِهِ أَعْطَى عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَأَمَّا إِنِ اخْتَرْنَا تَفْسِيرَ الْيَدِ بِالنِّعْمَةِ كَانَ الْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ نِسْبَةٌ بِحَسَبِ الْجِنْسِ، ثُمَّ يَدْخُلُ تَحْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجِنْسَيْنِ أَنْوَاعٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَقِيلَ: نِعْمَتَاهُ نِعْمَةُ الدِّينِ وَنِعْمَةُ الدُّنْيَا، أَوْ نِعْمَةُ الظَّاهِرِ وَنِعْمَةُ الْبَاطِنِ، أَوْ نِعْمَةُ النَّفْعِ وَنِعْمَةُ/ الدَّفْعِ، أَوْ نِعْمَةُ الشِّدَّةِ وَنِعْمَةُ الرَّخَاءِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّسْبَةِ الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِ النِّعْمَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُمْ (لَبَّيْكَ) مَعْنَاهُ إِقَامَةٌ عَلَى طَاعَتِكَ بَعْدَ إِقَامَةٍ، وَكَذَلِكَ (سَعْدَيْكَ) مَعْنَاهُ مُسَاعَدَةٌ بَعْدَ مُسَاعَدَةٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ طَاعَتَيْنِ وَلَا مُسَاعَدَتَيْنِ. فَكَذَلِكَ الْآيَةُ: الْمَعْنَى فِيهَا أَنَّ النِّعْمَةَ مُتَظَاهِرَةٌ مُتَتَابِعَةٌ لَيْسَتْ كَمَا ادُّعِيَ مِنْ أَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ مُمْتَنِعَةٌ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ أَيْ يَرْزُقُ وَيَخْلُقُ كَيْفَ يَشَاءُ، إِنْ شَاءَ قَتَّرَ، وَإِنْ شَاءَ وَسَّعَ. وَقَالَ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشاءُ [الشُّورَى: ٢٧] وَقَالَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرَّعْدِ: ٢٦] وَقَالَ قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ إِلَى قَوْلِهِ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ [آلِ عِمْرَانَ: ٢٦] .

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ رَدٌّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: يَجِبُ عَلَى اللَّه تَعَالَى إِعْطَاءُ الثَّوَابِ لِلْمُطِيعِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعَاقِبَهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُدْخِلَ الْعَاصِيَ الْجَنَّةَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنْ يُعَاقِبَهُ، فَهَذَا الْمَنْعُ وَالْحَجْرُ وَالْقَيْدُ يَجْرِي مَجْرَى الْغِلِّ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ قَائِلُونَ بِأَنَّ يَدَ اللَّه مَغْلُولَةٌ وَأَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَهُمُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُلْكَ مُلْكُهُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقٌ، وَلَا لِأَحَدٍ عَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ كَمَا قَالَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْمَائِدَةِ: ١٧] فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ لا يستقيم إلا على المذهب والمقالة، وَالْحَمْدُ للَّه عَلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ بِالْكَثِيرِ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ، يَعْنِي ازْدَادُوا عِنْدَ نُزُولِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ مِنَ الْقُرْآنِ

<<  <  ج: ص:  >  >>