يُوجَدُ فِيهَا مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، فاللَّه تَعَالَى جَعَلَ الْكَعْبَةَ مُعَظَّمَةً فِي الْقُلُوبِ حَتَّى صَارَ أَهْلُ الدُّنْيَا رَاغِبِينَ فِي زِيَارَتِهَا، فَيُسَافِرُونَ إِلَيْهَا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِأَجْلِ التِّجَارَةِ وَيَأْتُونَ بجميع المطالب والمشتهيات، فصار ذلك سببا لا سباغ النِّعَمِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ. الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَتَقَاتَلُونَ وَيُغِيرُونَ إِلَّا فِي الْحَرَمِ، فَكَانَ أَهْلُ الْحَرَمِ آمِنِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى أَمْوَالِهِمْ حَتَّى لَوْ لَقِيَ الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ فِي الْحَرَمِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، وَلَوْ جَنَى الرَّجُلُ أَعْظَمَ الْجِنَايَاتِ ثُمَّ الْتَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٧] الثَّالِثُ: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ صَارُوا بِسَبَبِ الْكَعْبَةِ أَهْلَ اللَّه وَخَاصَّتَهُ وَسَادَةَ الْخَلْقِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَكُلُّ أَحَدٍ يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِمْ وَيُعَظِّمُهُمْ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْكَعْبَةَ قِوَامًا لِلنَّاسِ فِي دِينِهِمْ بِسَبَبِ مَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْمَنَاسِكِ الْعَظِيمَةِ وَالطَّاعَاتِ الشَّرِيفَةِ، وجعل تلك المناسك سببا لحط الخطيآت، وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَكَثْرَةِ الْكَرَامَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قِوَامَ الْمَعِيشَةِ إِمَّا بِكَثْرَةِ الْمَنَافِعِ وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَإِمَّا بِدَفْعِ الْمَضَارِّ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي، وَإِمَّا بِحُصُولِ الْجَاهِ وَالرِّيَاسَةِ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ، وَإِمَّا بِحُصُولِ الدِّينِ وَهُوَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ، فَلَمَّا كَانَتِ الْكَعْبَةُ سَبَبًا لِحُصُولِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، وَثَبَتَ أَنَّ قِوَامَ الْمَعِيشَةِ لَيْسَ إِلَّا بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ ثَبَتَ أَنَّ الْكَعْبَةَ سَبَبٌ لِقَوَامِ النَّاسِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ قِياماً لِلنَّاسِ أَيْ لِبَعْضِ النَّاسِ وَهُمُ الْعَرَبُ، وَإِنَّمَا حَسُنَ هَذَا الْمَجَازُ لِأَنَّ أَهْلَ كُلِّ بَلَدٍ إِذَا قَالُوا النَّاسُ فَعَلُوا كَذَا وَصَنَعُوا كَذَا فَإِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَ إِلَّا أَهْلَ بَلْدَتِهِمْ فَلِهَذَا السَّبَبِ خُوطِبُوا بِهَذَا الْخِطَابِ عَلَى وَفْقِ عَادَتِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ سَبَبًا لِقِيَامِ النَّاسِ وَقِوَامِهِمْ. الْأَوَّلُ:
الْكَعْبَةُ وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى كَوْنِهَا سَبَبًا لِقِيَامِ النَّاسِ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ/ وَمَعْنَى كَوْنِهِ سَبَبًا لِقِيَامِ النَّاسِ هُوَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي سَائِرِ الْأَشْهُرِ، وَيُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَإِذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ زَالَ الْخَوْفُ وَقَدَرُوا عَلَى الْأَسْفَارِ وَالتِّجَارَاتِ وَصَارُوا آمِنِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَكَانُوا يُحَصِّلُونَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ مِنَ الْأَقْوَاتِ مَا كَانَ يَكْفِيهِمْ طُولَ السَّنَةِ، فَلَوْلَا حُرْمَةُ الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَهَلَكُوا وَتَفَانَوْا مِنَ الْجُوعِ وَالشِّدَّةِ فَكَانَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ سَبَبًا لِقِوَامِ مَعِيشَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا. فَهُوَ سَبَبٌ لا لِاكْتِسَابِ الثَّوَابِ الْعَظِيمِ بِسَبَبِ إِقَامَةِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ الْأَرْبَعَةَ إِلَّا أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْهَا بِلَفْظِ الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِهِ مَذْهَبَ الْجِنْسِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَهُوَ الْهَدْيُ وَهُوَ إِنَّمَا كَانَ سَبَبًا لِقِيَامِ النَّاسِ، لِأَنَّ الْهَدْيَ مَا يُهْدَى إِلَى الْبَيْتِ وَيُذْبَحُ هُنَاكَ وَيُفَرَّقُ لَحْمُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَيَكُونُ ذَلِكَ نُسُكًا لِلْمُهْدِي وَقِوَامًا لِمَعِيشَةِ الْفُقَرَاءِ. وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَهُوَ الْقَلَائِدُ، وَالْوَجْهُ فِي كَوْنِهَا قِيَامًا لِلنَّاسِ أَنَّ مَنْ قَصَدَ الْبَيْتَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ أَحَدٌ، وَمَنْ قصده من غَيْرِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَمَعَهُ هَدْيٌ، وَقَدْ قَلَّدَهُ وقلد نفسه من لحاء شجرة الْحَرَمِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ أَحَدٌ، حَتَّى إِنَّ الْوَاحِدَ مِنَ الْعَرَبِ يَلْقَى الْهَدْيَ مُقَلَّدًا، وَيَمُوتُ مِنَ الْجُوعِ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ الْبَتَّةَ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا صَاحِبُهَا أَيْضًا، وَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ تَعْظِيمَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَكُلُّ مَنْ قَصَدَهُ أَوْ تَقَرَّبَ إِلَيْهِ صَارَ آمِنًا مِنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ وَالْمَخَافَاتِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ذَكَرَ بَعْدَهُ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ، وَهِيَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ وَالْهَدْيُ وَالْقَلَائِدُ، لِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ إِنَّمَا صَارَتْ سَبَبًا لِقِوَامِ الْمَعِيشَةِ لِانْتِسَابِهَا إِلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَكَانَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute