للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الْأَعْرَافِ: ٢٠١] فَلَمْ يُبَالِغْ فِي تَقْرِيرِ شَيْءٍ مِنْ مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ مِثْلَ مَا بَالَغَ فِي تَقْرِيرِ مَقَامِ الذِّكْرِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ

قَوْلَهُ: «ذَكَرَنِي عَبْدِي»

يدل على أن قولنا: «الله» اسم علم لَذَاتِهِ الْمَخْصُوصَةِ، إِذْ لَوْ كَانَ اسْمًا مُشْتَقًّا لَكَانَ مَفْهُومُهُ مَفْهُومًا كُلِّيًّا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا صَارَتْ ذَاتُهُ الْمَخْصُوصَةُ الْمُعَيَّنَةُ مَذْكُورَةً بِهَذَا اللَّفْظِ، فَظَاهِرٌ أَنَّ لَفْظَيِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَفْظَانِ كُلِّيَّانِ، / فَثَبَتَ أَنَّ

قَوْلَهُ: «ذَكَرَنِي عَبْدِي»

يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَنَا اللَّهِ اسْمُ عَلَمٍ، أَمَّا

قَوْلُهُ: «وَإِذَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى حَمِدَنِي عَبْدِي»

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَقَامَ الْحَمْدِ أَعْلَى مِنْ مَقَامِ الذِّكْرِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ أَوَّلَ كَلَامٍ ذُكِرَ فِي أَوَّلِ خَلْقِ الْعَالَمِ هُوَ الْحَمْدُ، بِدَلِيلِ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [الْبَقَرَةِ: ٣٠] وَآخِرُ كَلَامٍ يُذْكَرُ بَعْدَ فَنَاءِ الْعَالَمِ هُوَ الْحَمْدُ أَيْضًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: ١٠] وَالْعَقْلُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْفِكْرَ فِي ذَاتِ اللَّهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ،

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ وَلَا تَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ»

وَلِأَنَّ الْفِكْرَ فِي الشَّيْءِ مَسْبُوقٌ بِسَبْقِ تَصَوُّرِهِ، وَتَصَوُّرُ كُنْهِ حَقِيقَةِ الْحَقِّ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَالْفِكْرُ فِيهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَعَلَى هَذَا الْفِكْرُ لَا يُمْكِنُ إِلَّا فِي أَفْعَالِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ الْخَيْرَ مَطْلُوبٌ بِالذَّاتِ، وَالشَّرَّ بِالْعَرَضِ فَكُلُّ مَنْ تَفَكَّرَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَمَصْنُوعَاتِهِ كَانَ وُقُوفُهُ عَلَى رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ أَكْثَرَ، فَلَا جَرَمَ كَانَ اشْتِغَالُهُ بِالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ أَكْثَرَ، فَلِهَذَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَعِنْدَ هَذَا

يَقُولُ: حَمِدَنِي عَبْدِي،

فَشَهِدَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ بِوُقُوفِ الْعَبْدِ بِعَقْلِهِ وَفِكْرِهِ عَلَى وُجُودِ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ فِي تَرْتِيبِ الْعَالَمِ الْأَعْلَى وَالْعَالَمِ الْأَسْفَلِ، وَعَلَى أَنَّ لِسَانَهُ صَارَ مُوَافِقًا لِعَقْلِهِ وَمُطَابِقًا لَهُ، وَإِنْ غَرَقَ فِي بَحْرِ الْإِيمَانِ بِهِ وَالْإِقْرَارِ بِكَرَمِهِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَعَقْلِهِ وَبَيَانِهِ، فَمَا أَجَّلَ هَذِهِ الْحَالَةَ.

وَأَمَّا

قَوْلُهُ: «وَإِذَا قَالَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَقُولُ اللَّهُ عَظَّمَنِي عَبْدِي»

فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ لَمَّا قَالَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَدْ ذَكَرَ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ وَهُنَاكَ لَمْ يَقُلِ الله عظمني عبدي، وهاهنا لَمَّا قَالَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ عَظَّمَنِي عَبْدِي فَمَا الْفَرْقُ؟ وَجَوَابُهُ أَنَّ قَوْلَهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ دَلَّ عَلَى إِقْرَارِ الْعَبْدِ بِكَمَالِهِ فِي ذَاتِهِ، وَبِكَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ الْكَامِلَ فِي ذَاتِهِ الْمُكَمِّلَ لِغَيْرِهِ وَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ، فَلَمَّا قَالَ بَعْدَهُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ الْكَامِلَ فِي ذَاتِهِ الْمُكَمِّلَ لِغَيْرِهِ الْمُنَزَّهَ عَنِ الشَّرِيكِ وَالنَّظِيرِ وَالْمِثْلِ وَالضِّدِّ وَالنِّدِّ فِي غَايَةِ الرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالْكَرَمِ مَعَ عِبَادِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ غَايَةَ مَا يَصِلُ الْعَقْلُ وَالْفَهْمُ وَالْوَهْمُ إِلَيْهِ مِنْ تَصَوُّرِ مَعْنَى الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ لَيْسَ إِلَّا هَذَا الْمَقَامَ، فلهذا السبب

قال الله تعالى هاهنا: «عَظَّمَنِي عَبْدِي» .

وَأَمَّا

قَوْلُهُ: «وَإِذَا قَالَ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يَقُولُ اللَّهُ مَجَّدَنِي عَبْدِي»

أَيْ: نَزَّهَنِي وَقَدَّسَنِي عَمَّا لَا يَنْبَغِي- فَتَقْرِيرُهُ أَنَّا نَرَى فِي دَارِ الدُّنْيَا كَوْنَ الظَّالِمِينَ مُتَسَلِّطِينَ عَلَى الْمَظْلُومِينَ، وَكَوْنَ الْأَقْوِيَاءِ مُسْتَوْلِينَ عَلَى الضُّعَفَاءِ، وَنَرَى الْعَالِمَ الزَّاهِدَ الْكَامِلَ فِي أَضْيَقِ الْعَيْشِ، وَنَرَى الْكَافِرَ الْفَاسِقَ فِي أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الرَّاحَةِ وَالْغِبْطَةِ، وَهَذَا الْعَمَلُ لَا يَلِيقُ بِرَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ وَأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، فَلَوْ لَمْ يَحْصُلِ الْمَعَادُ وَالْبَعْثُ وَالْحَشْرُ حَتَّى يَنْتَصِفَ اللَّهُ فِيهِ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَيُوصِلَ إِلَى أَهْلِ الطَّاعَةِ الثَّوَابَ، وَإِلَى أَهْلِ الْكُفْرِ الْعِقَابَ، لَكَانَ هَذَا الْإِهْمَالُ وَالْإِمْهَالُ ظُلْمًا مِنَ اللَّهِ عَلَى/ الْعِبَادِ، أَمَّا لَمَّا حَصَلَ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَيَوْمَ الدِّينِ انْدَفَعَ وَهْمُ الظُّلْمِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النَّجْمِ: ٣١] وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:

مَجَّدَنِي عَبْدِي، الَّذِي نَزَّهَنِي عَنِ الظُّلْمِ وَعَنْ شِيَمِهِ.

وَأَمَّا

قَوْلُهُ: «وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قَالَ اللَّهُ هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي»

فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى سِرِّ مَسْأَلَةِ