للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ أَهْلِ دِينِهِمَا، وَالثَّانِي: قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعَصْرِ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ عُرِفَ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ صَلَاةُ الْعَصْرِ، مَعَ أَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ الصَّلَاةُ الْمُطْلَقَةُ.

قُلْنَا: إِنَّمَا عُرِفَ هَذَا التَّعْيِينُ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ بِالتَّحْلِيفِ بَعْدَهَا فَالتَّقْيِيدُ بِالْمَعْرُوفِ الْمَشْهُورِ أَغْنَى عَنِ التَّقْيِيدِ بِاللَّفْظِ، وَثَانِيهَا: مَا

رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ صلّى النبي (ص) صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَدَعَا بِعَدِيٍّ وَتَمِيمٍ، فَاسْتَحْلَفَهُمَا عِنْدَ الْمِنْبَرِ،

فَصَارَ فِعْلُ الرَّسُولِ دَلِيلًا عَلَى التَّقْيِيدِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ يُعَظِّمُونَ هَذَا الْوَقْتَ وَيَذْكُرُونَ اللَّه فِيهِ وَيَحْتَرِزُونَ عَنِ الْحَلِفِ الْكَاذِبِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يُصَلُّونَ لِطُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا.

وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ الْحَسَنُ: الْمُرَادُ بَعْدَ الظُّهْرِ أَوْ بَعْدَ الْعَصْرِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْحِجَازِ كَانُوا يَقْعُدُونَ لِلْحُكُومَةِ بَعْدَهُمَا.

وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُرَادَ بَعْدَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ أَيَّ صَلَاةٍ كَانَتْ وَالْغَرَضُ مِنَ التَّحْلِيفِ بَعْدَ/ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ هُوَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، فَكَانَ احْتِرَازُ الْحَالِفِ عَنِ الْكَذِبِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْأَيْمَانُ تُغَلَّظُ فِي الدِّمَاءِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَالْمَالِ إِذَا بَلَغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَيَحْلِفُ بَعْدَ الْعَصْرِ بِمَكَّةَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَبِالْمَدِينَةِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ، وَفِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ فِي أَشْرَفِ الْمَسَاجِدِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: يَحْلِفُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْتَصَّ الْحَلِفُ بِزَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، وَهَذَا عَلَى خِلَافِ الْآيَةِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّهْوِيلُ وَالتَّعْظِيمُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَقْوَى.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لِلْجَزَاءِ يَعْنِي: تَحْبِسُونَهُمَا فَيُقْدِمَانِ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْحَبْسِ عَلَى الْقَسَمِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ إِنِ ارْتَبْتُمْ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْقَسَمِ وَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: إِنِ ارْتَبْتُمْ فِي شَأْنِهِمَا وَاتَّهَمْتُمُوهُمَا فَحَلِّفُوهُمَا، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ مَنْ يَقُولُ الْآيَةُ نَازِلَةٌ فِي إِشْهَادِ الْكُفَّارِ، لِأَنَّ تَحْلِيفَ الشَّاهِدِ الْمُسْلِمِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَمَنْ قَالَ الْآيَةُ نَازِلَةٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ قَالَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ،

وَعَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يُحَلِّفُ الشَّاهِدَ وَالرَّاوِيَ عِنْدَ التُّهْمَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً يَعْنِي يُقْسِمَانِ باللَّه أَنَّا لَا نَبِيعُ عَهْدَ اللَّه بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا قَائِلِينَ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا [آلِ عِمْرَانَ: ٧٧] أَيْ لَا نَأْخُذُ وَلَا نَسْتَبْدِلُ، وَمَنْ بَاعَ شَيْئًا فَقَدِ اشْتَرَى ثَمَنَهُ، وَقَوْلُهُ وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى أَيْ لَا نَبِيعُ عَهْدَ اللَّه بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ حَبْوَةَ ذِي قُرْبَى أَوْ نَفْسِهِ، وَخَصَّ ذَا الْقُرْبَى بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْمَيْلَ إِلَيْهِمْ أَتَمُّ وَالْمُدَاهَنَةَ بِسَبَبِهِمْ أَعْظَمُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النِّسَاءِ: ١٣٥] .

<<  <  ج: ص:  >  >>