الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَدْحِ وَالْحَمْدِ وَالشُّكْرِ.
اعْلَمْ أَنَّ الْمَدْحَ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ، وَالْحَمْدَ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ.
أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْمَدْحَ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ، فَلِأَنَّ الْمَدْحَ يَحْصُلُ لِلْعَاقِلِ وَلِغَيْرِ الْعَاقِلِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا يَحْسُنُ مَدْحُ الرَّجُلِ الْعَاقِلِ عَلَى أَنْوَاعِ فَضَائِلِهِ، فَكَذَلِكَ قَدْ يُمْدَحُ اللُّؤْلُؤُ لِحُسْنِ شَكْلِهِ وَلَطَافَةِ خِلْقَتِهِ، وَيُمْدَحُ الْيَاقُوتُ عَلَى نِهَايَةِ صَفَائِهِ وَصَقَالَتِهِ! فَيُقَالُ: مَا أَحْسَنَهُ وَمَا أَصْفَاهُ، وَأَمَّا الْحَمْدُ: فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ عَلَى مَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنَ الْإِنْعَامِ وَالْإِحْسَانِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَدْحَ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ.
وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْحَمْدَ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ، فَلِأَنَّ الْحَمْدَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ الْفَاعِلِ لِأَجْلِ مَا صَدَرَ عَنْهُ مِنَ الْإِنْعَامِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْإِنْعَامُ وَاصِلًا إِلَيْكَ أَوْ إِلَى غَيْرِكَ، وَأَمَّا الشُّكْرُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْظِيمِهِ لِأَجْلِ إِنْعَامٍ وَصَلَ إِلَيْكَ وَحَصَلَ عِنْدَكَ. فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَدْحَ أَعَمُّ مِنَ الْحَمْدِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّمَا لَمْ يَقُلِ الْمَدْحُ للَّه لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَدْحَ كَمَا يَحْصُلُ لِلْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، فَقَدْ يَحْصُلُ لِغَيْرِهِ. أَمَّا الْحَمْدُ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِلْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ. فَكَانَ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ تَصْرِيحًا بِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي وُجُودِ هَذَا الْعَالَمِ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ خَلَقَهُ بِالْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَلَيْسَ عِلَّةً مُوجِبَةً لَهُ إِيجَابَ الْعِلَّةِ لِمَعْلُولِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْفَائِدَةَ عَظِيمَةٌ فِي الدِّينِ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلِ الشُّكْرُ للَّه، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الشُّكْرَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْظِيمِهِ بِسَبَبِ إِنْعَامٍ صَدَرَ مِنْهُ وَوَصَلَ إِلَيْكَ، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا ذَكَرَ تَعْظِيمَهُ بِسَبَبِ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ النِّعْمَةِ فحينئذ يكون المطلوب الأصلي به وَصُولَ النِّعْمَةِ إِلَيْهِ وَهَذِهِ دَرَجَةٌ حَقِيرَةٌ، فَأَمَّا إِذَا قَالَ: الْحَمْدُ للَّه، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ حَمِدَهُ لِأَجْلِ كَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلْحَمْدِ لَا لِخُصُوصِ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْصَلَ/ النِّعْمَةَ إِلَيْهِ، فَيَكُونُ الْإِخْلَاصُ أَكْمَلَ، وَاسْتِغْرَاقُ الْقَلْبِ فِي مُشَاهَدَةِ نُورِ الْحَقِّ أَتَمَّ، وَانْقِطَاعُهُ عَمَّا سِوَى الْحَقِّ أَقْوَى وَأَثْبَتَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَمْدُ: لَفْظٌ مُفْرَدٌ مُحَلًّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فَيُفِيدُ أَصْلَ الْمَاهِيَّةِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ يُفِيدُ أَنَّ هَذِهِ الْمَاهِيَّةَ للَّه، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْحَمْدِ لِغَيْرِ اللَّه، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ جَمِيعَ أَقْسَامِ الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ لَيْسَ إِلَّا للَّه سُبْحَانَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ، مِثْلُ شُكْرِ الْأُسْتَاذِ عَلَى تَعْلِيمِهِ، وَشُكْرُ السُّلْطَانِ عَلَى عَدْلِهِ، وَشُكْرُ الْمُحْسِنِ عَلَى إِحْسَانِهِ، كما
قال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّه» .
قُلْنَا: الْمَحْمُودُ وَالْمَشْكُورُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: صُدُورُ الْإِحْسَانِ مِنَ الْعَبْدِ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ دَاعِيَةِ الْإِحْسَانِ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ، وَحُصُولُ تِلْكَ الدَّاعِيَةِ فِي القلب ليس من العبد، وإلا لا فتقر فِي حُصُولِهَا إِلَى دَاعِيَةٍ أُخْرَى وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، بَلْ حُصُولُهَا لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه سُبْحَانَهُ فَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ عِنْدَ حُصُولِهَا يَجِبُ الْفِعْلُ، وَعِنْدَ زَوَالِهَا يَمْتَنِعُ الْفِعْلُ فَيَكُونُ الْمُحْسِنُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ إِلَّا اللَّه، فَيَكُونُ الْمُسْتَحِقُّ لِكُلِّ حَمْدٍ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّه تَعَالَى. وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ أَحْسَنَ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ إِلَى الْغَيْرِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُقْدِمُ عَلَى ذَلِكَ الْإِحْسَانِ إِمَّا لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ، أَمَّا جَلْبُ الْمَنْفَعَةِ: فَإِنَّهُ يَطْمَعُ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْإِحْسَانِ بِمَا يَصِيرُ سَبَبًا لِحُصُولِ السُّرُورِ فِي قَلْبِهِ أَوْ مُكَافَأَةٍ بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فِي الدُّنْيَا أَوْ وِجْدَانِ ثَوَابٍ فِي الْآخِرَةِ. وَأَمَّا دَفْعُ الْمَضَرَّةِ، فَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَى حَيَوَانًا فِي ضُرٍّ أَوْ بَلِيَّةٍ فَإِنَّهُ يَرِقُّ قَلْبُهُ عَلَيْهِ، وَتِلْكَ الرِّقَّةُ أَلَمٌ مَخْصُوصٌ يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ عند