ودركات النيران، كما قَالَ تَعَالَى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يُونُسَ: ١٠] فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَذْكُورَةٌ فِي أَوَّلِ سُوَرٍ خَمْسَةٍ. أَوَّلُهَا: الْفَاتِحَةُ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَةِ: ٢] وَثَانِيهَا: فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الْأَنْعَامِ: ١] وَالْأَوَّلُ أَعَمُّ لِأَنَّ الْعَالَمَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّه تَعَالَى، فَقَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّه تَعَالَى. أَمَّا قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَا يَدْخُلُ فِيهِ إِلَّا خلق السموات وَالْأَرْضِ وَالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ سَائِرُ الْكَائِنَاتِ وَالْمُبْدَعَاتِ، فَكَانَ التَّحْمِيدُ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ كَأَنَّهُ قِسْمٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ التَّحْمِيدِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَتَفْصِيلٌ لِتِلْكَ الْجُمْلَةِ. وَثَالِثُهَا: سُورَةُ الْكَهْفِ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الْكَهْفِ: ١] وَذَلِكَ أَيْضًا تَحْمِيدٌ مَخْصُوصٌ بِنَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ النِّعْمَةِ وَهُوَ نِعْمَةُ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْهِدَايَةِ وَالْقُرْآنِ، وَبِالْجُمْلَةِ النِّعَمُ الْحَاصِلَةُ بِوَاسِطَةِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَرَابِعُهَا: سُورَةُ سَبَأٍ وَهِيَ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [سَبَأٍ: ١] وَهُوَ أَيْضًا قِسْمٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَخَامِسُهَا: سُورَةُ فَاطِرٍ، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [فَاطِرٍ: ١] وَظَاهِرٌ أَيْضًا أَنَّهُ قِسْمٌ مِنَ الْأَقْسَامِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فَظَهَرَ أَنَّ الْكَلَامَ الْكُلِّيَّ التَّامَّ هُوَ التَّحْمِيدُ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَهُوَ إِمَّا وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَإِمَّا مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ.
وَوَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَا سِوَاهُ مُمْكِنٌ وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا يُمْكِنُ دُخُولُهُ فِي الْوُجُودِ إِلَّا بِإِيجَادِ اللَّه تَعَالَى وَتَكْوِينِهِ وَالْوُجُودُ نِعْمَةٌ فَالْإِيجَادُ إِنْعَامٌ وَتَرْبِيَةٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وَأَنَّهُ تَعَالَى الْمُرَبِّي لِكُلِّ مَا سِوَاهُ وَالْمُحْسِنُ إِلَى كُلِّ مَا سِوَاهُ. فَذَلِكَ الْكَلَامُ هُوَ الْكَلَامُ الْكُلِّيُّ الْوَافِي بِالْمَقْصُودِ.
أَمَّا التَّحْمِيدَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ السُّوَرِ فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ ذَلِكَ التَّحْمِيدِ وَنَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَالِقِ وَبَيْنَ الْفَاطِرِ وَالرَّبِّ؟ وَأَيْضًا لِمَ قَالَ هَاهُنَا خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْمَاضِي؟ وَقَالَ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَنَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنِ الْأَوَّلِ: الْخَلْقُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ وَهُوَ فِي حَقِّ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمِهِ النَّافِذِ فِي جَمِيعِ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ الْوَاصِلِ إِلَى جَمِيعِ ذَوَاتِ الْكَائِنَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ وَأَمَّا كَوْنُهُ فَاطِرًا فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الإيجاد والا بداع، فَكَوْنُهُ تَعَالَى خَالِقًا إِشَارَةٌ إِلَى صِفَةِ الْعِلْمِ، وَكَوْنُهُ فَاطِرًا إِشَارَةٌ إِلَى صِفَةِ الْقُدْرَةِ، وَكَوْنُهُ تَعَالَى رَبًّا وَمُرَبِّيًا مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَمْرَيْنِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَكْمَلَ.
وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْخَلْقَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ وَهُوَ فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ عِلْمِهِ بِالْمَعْلُومَاتِ، وَالْعِلْمُ بِالشَّيْءِ يَصِحُّ تَقَدُّمُهُ عَلَى وُجُودِ الْمَعْلُومِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْلَمَ الشَّيْءَ قَبْلَ/ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ. أَمَّا إِيجَادُ الشَّيْءِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا حَالَ وُجُودِ الْأَثَرِ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِنَا أَنَّ الْقُدْرَةَ إِنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي وُجُودِ الْمَقْدُورِ حَالَ وُجُودِ الْمَقْدُورِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِهَا قبل وجودها، وقال: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَكُونُ فَاطِرًا لَهَا وَمُوجِدًا لَهَا عِنْدَ وُجُودِهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute