للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنْ يَكُونَ الْعَاقِلُ قَدْ مَارَسَ الْوِلَايَاتِ الْعَظِيمَةَ دَهْرًا طَوِيلًا، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ نَسِيَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَجْوِيزَهُ يُوجِبُ السَّفْسَطَةَ.

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ أَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ الْكَذِبِ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ مَا كَانُوا عُقَلَاءَ أَوْ كَانُوا عُقَلَاءَ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُمْ مَا كَانُوا عُقَلَاءَ فَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَحْكِيَ كَلَامَ الْمَجَانِينِ فِي مَعْرِضِ تَمْهِيدِ الْعُذْرِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُمْ كَانُوا عُقَلَاءَ فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَالِمٌ بِأَحْوَالِهِمْ، مُطَّلِعٌ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ تَجْوِيزَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّه مُحَالٌ، وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَفِيدُونَ بِذَلِكَ الْكَذِبِ إِلَّا زِيَادَةَ الْمَقْتِ وَالْغَضَبِ وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ إِقْدَامُهُمْ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى الْكَذِبِ.

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ لَوْ كَذَبُوا فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ حَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ الْكَذِبِ لَكَانُوا قَدْ أَقْدَمُوا عَلَى هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الْقُبْحِ وَالذَّنْبِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْعِقَابَ، فَتَصِيرُ الدَّارُ الْآخِرَةُ دَارَ التَّكْلِيفِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا إِنْ قِيلَ إِنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَى ذَلِكَ الْكَذِبِ، وَعَلَى ذَلِكَ الْحَلِفِ الْكَاذِبِ عِقَابًا وَذَمًّا، فَهَذَا يَقْتَضِي حُصُولَ الْإِذْنِ مِنَ اللَّه تَعَالَى فِي ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ وَالذُّنُوبِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِقْدَامُ أَهْلِ الْقِيَامَةِ عَلَى الْقَبِيحِ وَالْكَذِبِ.

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا: فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا يُحْمَلُ قَوْلُهُ وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ أَيْ مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ فِي اعْتِقَادِنَا وَظُنُونِنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا مُوَحِّدِينَ مُتَبَاعِدِينَ مِنَ الشِّرْكِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: يَكُونُونَ صَادِقِينَ فِيمَا أَخْبَرُوا عَنْهُ لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِأَنَّهُمْ كَانُوا غَيْرَ مُشْرِكِينَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ، فَلِمَاذَا قَالَ اللَّه تَعَالَى انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَنَا أَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ قَوْلِهِ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَذَبُوا فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ حَتَّى يَلْزَمَنَا هَذَا السُّؤَالُ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا فِي أُمُورٍ كَانُوا يُخْبِرُونَ عَنْهَا كَقَوْلِهِمْ: إِنَّهُمْ عَلَى صَوَابٍ وَإِنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ لَيْسَ بِشِرْكٍ وَالْكَذِبُ يَصِحُّ عَلَيْهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا يُنْفَى ذَلِكَ عَنْهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ اخْتِلَافُ الْحَالَيْنِ، وَأَنَّهُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَلَا يَحْتَرِزُونَ عَنْهُ وَأَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يَحْتَرِزُونَ عَنِ الْكَذِبِ وَلَكِنْ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُمُ الصِّدْقُ فَلِتَعَلُّقِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْآخَرِ أَظْهَرَ اللَّه تَعَالَى لِلرَّسُولِ ذَلِكَ وَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوْمَ لِأَجْلِ شِرْكِهِمْ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ فِي الْآخِرَةِ عِنْدَ الِاعْتِذَارِ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي دَارِ الدُّنْيَا يَكْذِبُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى صَوَابٍ. هَذَا جُمْلَةُ كَلَامِ الْقَاضِي فِي تَقْرِيرِ الْقَوْلِ الَّذِي اخْتَارَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَكْذِبُونَ فِي هَذَا الْقَوْلِ قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ قَدْ يَكْذِبُونَ فِي الْقِيَامَةِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ [المؤمنون: ١٠٧] مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَامِ: ٢٨] وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ [الْمُجَادَلَةِ: ١٨] بَعْدَ قَوْلِهِ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ [الْمُجَادَلَةِ: ١٤] فَشَبَّهَ كَذِبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِكَذِبِهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَالثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الْكَهْفِ: ١٩] وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إِقْدَامِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ عَلَى الْكَذِبِ. وَالرَّابِعُ: قَوْلُهُ حِكَايَةً عَنْهُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>