للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الدُّعَاءِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّه تَعَالَى، وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ، وَمِنْهَا اسْمٌ لِلشَّجَرِ الْعَظِيمِ، أَحْسَبُهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِسَلَامَتِهِ مِنَ الْآفَاتِ، وَهُوَ أَيْضًا اسْمٌ لِلْحِجَارَةِ الصُّلْبَةِ، وَذَلِكَ أَيْضًا لِسَلَامَتِهَا مِنَ الرَّخَاوَةِ. ثُمَّ قَالَ الزَّجَّاجُ:

قَوْلُهُ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ السلام هاهنا يَحْتَمِلُ تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ سَلَّمْتُ تَسْلِيمًا وَسَلَامًا مِثْلَ السَّرَاحِ مِنَ التَّسْرِيحِ، وَمَعْنَى سَلَّمْتُ عَلَيْهِ سَلَامًا، دَعَوْتُ لَهُ بِأَنْ يَسْلَمَ مِنَ الْآفَاتِ فِي دِينِهِ وَنَفْسِهِ. فَالسَّلَامُ بِمَعْنَى التَّسْلِيمِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّلَامُ جَمْعَ السَّلَامَةِ، فَمَعْنَى قَوْلِكَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، السَّلَامَةُ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَنْبَارِيِّ: قَالَ قَوْمٌ السَّلَامُ هُوَ اللَّه تَعَالَى فَمَعْنَى السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَعْنِي اللَّه عَلَيْكُمْ أَيْ عَلَى حِفْظِكُمْ وَهَذَا بِعِيدٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِتَنْكِيرِ السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ وَلَوْ كَانَ مُعَرَّفًا لَصَحَّ هَذَا الْوَجْهُ. وَأَقُولُ كَتَبْتُ فُصُولًا مُشْبِعَةً كَامِلَةً فِي قَوْلِنَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَكَتَبْتُهَا فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ، وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ عَنْ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِذَا نَقَلْتُهُ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ كَمُلَ الْبَحْثُ واللَّه أَعْلَمُ.

أَمَّا قَوْلُهُ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ كُتِبَ كذا على فلان يفيد الإيجاب. ولكمة «عَلَى» أَيْضًا تُفِيدُ الْإِيجَابَ وَمَجْمُوعُهُمَا مُبَالَغَةٌ فِي الْإِيجَابِ. فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ سُبْحَانَهُ رَاحِمًا لِعِبَادِهِ رَحِيمًا بِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ وَاخْتَلَفَ الْعُقَلَاءُ فِي سَبَبِ ذَلِكَ الْوُجُوبِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي عَبِيدِهِ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ، إِلَّا أَنَّهُ أَوْجَبَ الرَّحْمَةَ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى سَبِيلِ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ كَوْنَهُ عَالِمًا بِقُبْحِ الْقَبَائِحِ وَعَالَمًا بِكَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْهَا، يَمْنَعُهُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَبَائِحِ وَلَوْ فَعَلَهُ كَانَ ظُلْمًا، وَالظُّلْمُ قَبِيحٌ، وَالْقَبِيحُ مِنْهُ مُحَالٌ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْمَسَائِلِ الْجَلِيَّةِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ تَسْمِيَةُ ذَاتِ اللَّه تَعَالَى بِالنَّفْسِ وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة: ١١٦] يدل عليه، والنفس هاهنا بِمَعْنَى الذَّاتِ وَالْحَقِيقَةِ، وَأَمَّا بِمَعْنَى الْجِسْمِ وَالدَّمِ فاللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُقَدَّسٌ عَنْهُ. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جِسْمًا لَكَانَ مُرَكَّبًا وَالْمُرَكَّبُ مُمْكِنٌ وَأَيْضًا أَنَّهُ أَحَدٌ، وَالْأَحَدُ لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا، وَمَا لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا لَا يَكُونُ جِسْمًا وَأَيْضًا أنه غني كما قال وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَالْغَنِيُّ لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا وَمَا لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا لَا يَكُونُ جِسْمًا وَأَيْضًا الْأَجْسَامُ مُتَمَاثِلَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ، فَلَوْ كَانَ جِسْمًا لَحَصَلَ لَهُ مِثْلٌ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لِقَوْلِهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: ١١] فَأَمَّا الدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ فَكَثِيرَةٌ ظَاهِرَةٌ بَاهِرَةٌ قَوِيَّةٌ جَلِيَّةٌ وَالْحَمْدُ للَّه عَلَيْهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ يُنَافِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ الْكُفْرَ فِي الْكَافِرِ، ثُمَّ يُعَذِّبُهُ عَلَيْهِ أَبَدَ الْآبَادِ، وَيُنَافِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَمْنَعُهُ عَنِ الْإِيمَانِ، ثُمَّ يَأْمُرُهُ حَالَ ذَلِكَ الْمَنْعِ بِالْإِيمَانِ، ثُمَّ يُعَذِّبُهُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ الْإِيمَانِ. وجواب أصحابنا: أنه ضار نافع محيي مُمِيتٌ، فَهُوَ تَعَالَى فَعَلَ تِلْكَ الرَّحْمَةَ الْبَالِغَةَ وَفَعَلَ هَذَا الْقَهْرَ الْبَالِغَ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ الرَّسُولَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ كَانَ هَذَا مِنْ قَوْلِ اللَّه تَعَالَى وَمِنْ كَلَامِهِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا: سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ وَتَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ أَقْوَامًا بِأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨] ثُمَّ إِنَّ أَقْوَامًا أَفْنَوْا أَعْمَارَهُمْ فِي الْعُبُودِيَّةِ حَتَّى صَارُوا فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>