للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَالْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: أَنَّ كَثْرَةَ الْأَفْعَالِ وَتَكَرُّرَهَا تُوجِبُ حُدُوثَ الْمَلَكَاتِ الرَّاسِخَةِ الْقَوِيَّةِ الثَّابِتَةِ وَالِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ يَكْشِفُ عَنْ صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ. أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَتْ مُوَاظَبَتُهُ عَلَى عَمَلٍ مِنَ/ الْأَعْمَالِ أَكْثَرَ كَانَ رُسُوخُ الْمَلَكَةِ التَّامَّةِ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ مِنْهُ فِيهِ أَقْوَى.

الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ تَكَرُّرُ الْعَمَلِ يُوجِبُ حُصُولَ الْمَلَكَةِ الرَّاسِخَةِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ أَثَرٌ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْمَلَكَةِ، بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْعَمَلِ الْوَاحِدِ أَثَرٌ بِوَجْهٍ مَا فِي حُصُولِ تِلْكَ الْمَلَكَةِ، وَالْعُقَلَاءُ ضَرَبُوا لِهَذَا الْبَابِ أَمْثِلَةً.

الْمِثَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا سَفِينَةً عَظِيمَةً بِحَيْثُ لَوْ أُلْقِيَ فِيهَا مِائَةُ أَلْفِ مَنٍّ فَإِنَّهَا تَغُوصُ فِي الْمَاءِ بِقَدْرِ شِبْرٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ لَمْ يُلْقَ فِيهَا إِلَّا حَبَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ الْحِنْطَةِ، فَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ إِلْقَاءِ الْجِسْمِ الثَّقِيلِ فِي تِلْكَ السَّفِينَةِ يُوجِبُ غَوْصَهَا فِي الْمَاءِ بِمِقْدَارٍ قَلِيلٍ، وَإِنْ قَلَّتْ وَبَلَغَتْ فِي الْقِلَّةِ إِلَى حَيْثُ لَا يُدْرِكُهَا الْحِسُّ وَلَا يَضْبُطُهَا الْخَيَالُ.

الْمَثَّالُ الثَّانِي: أَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ أَنَّ الْبَسَائِطَ أَشْكَالَهَا الطَّبِيعِيَّةَ كُرَاتٌ فَسَطْحُ الْمَاءِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُرَةً وَالْقِسِيُّ الْمُشَابِهَةُ مِنَ الدَّوَائِرِ الْمُحِيطَةِ بِالْمَرْكَزِ الْوَاحِدِ مُتَفَاوِتَةٌ، فَإِنَّ تَحَدُّبَ الْقَوْسِ الْحَاصِلَ مِنَ الدَّائِرَةِ الْعُظْمَى يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ تَحَدُّبِ الْقَوْسِ الْمُشَابِهَةِ لِلْأُولَى مِنَ الدَّائِرَةِ الصُّغْرَى وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْكُوزُ إِذَا مُلِئَ مِنَ الْمَاءِ، وَوُضِعَ تَحْتَ الْجَبَلِ كَانَتْ حَدَبَةُ سَطْحِ ذلك الماء أعظم من حدبته عند ما يوضع الكوز فوق الجبل، ومنى كَانَتِ الْحَدَبَةُ أَعْظَمَ وَأَكْثَرَ كَانَ احْتِمَالُ الْمَاءِ بِالْكُوزِ أَكْثَرَ، فَهَذَا يُوجِبُ أَنَّ احْتِمَالَ الْكُوزِ لِلْمَاءِ حَالَ كَوْنِهِ تَحْتَ الْجَبَلِ أَكْثَرُ مِنَ احْتِمَالِهِ لِلْمَاءِ حَالَ كَوْنِهِ فَوْقَ الْجَبَلِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ التَّفَاوُتِ بِحَيْثُ لَا يَفِي بِإِدْرَاكِهِ الْحِسُّ وَالْخَيَالُ لِكَوْنِهِ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ.

وَالْمَثَّالُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِنْسَانَيْنِ اللَّذَيْنِ يَقِفُ أَحَدُهُمَا بِالْقُرْبِ مِنَ الْآخَرِ، فَإِنَّ رِجْلَيْهِمَا يَكُونَانِ أَقْرَبَ إِلَى مَرْكَزِ الْعَالَمِ مِنْ رَأْسَيْهِمَا، لِأَنَّ الْأَجْرَامَ الثَّقِيلَةَ تَنْزِلُ مِنْ فَضَاءِ الْمُحِيطِ إِلَى ضِيقِ الْمَرْكَزِ، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنَ التَّفَاوُتِ لَا يَفِي بِإِدْرَاكِهِ الْحِسُّ وَالْخَيَالُ.

فَإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْأَمْثِلَةَ: وَعَرَفْتَ أَنَّ كَثْرَةَ الْأَفْعَالِ تُوجِبُ حُصُولَ الْمَلَكَاتِ فَنَقُولُ: لَا فِعْلَ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِقَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ إِلَّا وَيُفِيدُ حُصُولَ أَثَرٍ فِي النَّفْسِ. إِمَّا فِي السَّعَادَةِ، وَإِمَّا فِي الشَّقَاوَةِ، وَعِنْدَ هَذَا يَنْكَشِفُ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ صِحَّةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزَّلْزَلَةِ: ٧، ٨] وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْأَفْعَالَ تُوجِبُ حُصُولَ الْمَلَكَاتِ وَالْأَفْعَالُ الصَّادِرَةُ مِنَ الْيَدِ، فَهِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي حُصُولِ الْمَلَكَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ الصَّادِرَةُ مِنَ الرِّجْلِ، فَلَا جَرَمَ تَكُونُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ شَاهِدَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْإِنْسَانِ، بِمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْآثَارَ النَّفْسَانِيَّةَ، إِنَّمَا حَصَلَتْ فِي جَوَاهِرِ النُّفُوسِ بِوَاسِطَةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ عَنْ هَذِهِ الْجَوَارِحِ، فَكَانَ صُدُورُ تِلْكَ/ الْأَفْعَالِ مِنْ تِلْكَ الْجَارِحَةِ الْمَخْصُوصَةِ جَارِيًا مَجْرَى الشَّهَادَةِ لِحُصُولِ تِلْكَ الْآثَارِ الْمَخْصُوصَةِ فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ، وَأَمَّا الْحِسَابُ: فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ مَعْرِفَةُ مَا بَقِيَ مِنَ الدَّخْلِ وَالْخَرْجِ، وَلَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ لِكُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ أَثَرًا فِي حُصُولِ هَيْئَةٍ مِنْ هَذِهِ الْهَيْئَاتِ فِي جَوْهَرِ النَّفْسِ، إِمَّا مِنَ الْهَيْئَاتِ الزَّاكِيَةِ الطَّاهِرَةِ أَوْ مِنَ الْهَيْئَاتِ الْمَذْمُومَةِ الْخَسِيسَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً. فَلَا جَرَمَ كَانَ بَعْضُهَا يَتَعَارَضُ بِالْبَعْضِ، وَبَعْدَ حُصُولِ تِلْكَ الْمُعَارَضَاتِ بَقِيَ فِي النَّفْسِ قَدْرٌ مَخْصُوصٌ من الخلق

<<  <  ج: ص:  >  >>