إِلَى قِيَامِ الْقِيَامَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَرَبُ مُعْتَرِفِينَ بِفَضْلِهِ لَا جَرَمَ جَعَلَ اللَّه تَعَالَى مُنَاظَرَتَهُ مَعَ قَوْمِهِ حُجَّةً عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ أَحَدٌ يُثْبِتُ للَّه تَعَالَى شَرِيكًا يُسَاوِيهِ فِي الْوُجُوبِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، لَكِنِ الثَّنَوِيَّةُ يُثْبِتُونَ إِلَهَيْنِ، أَحَدُهُمَا حَكِيمٌ يَفْعَلُ الْخَيْرَ، وَالثَّانِي سَفِيهٌ يَفْعَلُ الشَّرَّ، وَأَمَّا الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّه. فَفِي الذَّاهِبِينَ إِلَيْهِ كَثْرَةٌ. فَمِنْهُمْ عَبَدَةُ الْكَوَاكِبِ، وَهُمْ فَرِيقَانِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ، وَفَوَّضَ تَدْبِيرَ هَذَا الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ إِلَيْهَا، فَهَذِهِ الْكَوَاكِبُ، هِيَ الْمُدَبِّرَاتُ لِهَذَا الْعَالَمِ، قَالُوا: فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْبُدَ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ، ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ تَعْبُدُ اللَّه وتطبعه، وَمِنْهُمْ قَوْمٌ غُلَاةٌ يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ، وَيَقُولُونَ هَذِهِ الْأَفْلَاكُ وَالْكَوَاكِبُ أَجْسَامٌ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا وَيَمْتَنِعُ عَلَيْهَا الْعَدَمُ وَالْفَنَاءُ، وَهِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِأَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الدَّهْرِيَّةُ الْخَالِصَةُ، وَمِمَّنْ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّه النَّصَارَى الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْمَسِيحَ وَمِنْهُمْ أَيْضًا عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هُنَا بَحْثًا لَا بُدَّ مِنْهُ وَهُوَ أَنَّهُ لَا دِينَ أَقْدَمَ مِنْ دِينِ عَبْدَةِ الْأَصْنَامِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أَقْدَمَ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ وَصَلَ إِلَيْنَا تَوَارِيخُهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ هُوَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ إِنَّمَا جَاءَ بِالرَّدِّ عَلَى عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمِهِ أنهم قالوا: لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نُوحٍ: ٢٣] وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دِينَ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ قَدْ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ بَقِيَ ذَلِكَ الدِّينُ إِلَى هَذَا الزَّمَانِ فَإِنَّ أَكْثَرَ سُكَّانِ أَطْرَافِ الْأَرْضِ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى هَذَا الدِّينِ وَالْمَذْهَبُ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْبُطْلَانِ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ هَذَا الْحَجَرَ الْمَنْحُوتَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي خَلَقَنِي وَخَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ، وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ يَمْتَنِعُ إِطْبَاقُ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ عَلَى إِنْكَارِهِ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ دِينُ عَبَدَةِ الْأَصْنَامِ كَوْنَ الصَّنَمِ/ خَالِقًا لِلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِيهِ تَأْوِيلٌ، وَالْعُلَمَاءُ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا كَثِيرَةً وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْبَحْثَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ نعيده هاهنا تَكْثِيرًا لِلْفَوَائِدِ.
فَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْأَقْوَى أَنَّ النَّاسَ رَأَوْا تَغَيُّرَاتِ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ الْأَسْفَلِ مَرْبُوطَةً بِتَغَيُّرَاتِ أَحْوَالِ الْكَوَاكِبِ، فَإِنَّ بِحَسَبِ قُرْبِ الشَّمْسِ وَبُعْدِهَا مِنْ سَمْتِ الرَّأْسِ تَحْدُثُ الْفُصُولُ الْأَرْبَعَةُ، وَبِسَبَبِ حُدُوثِ الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ تَحَدُثُ الْأَحْوَالُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي هَذَا الْعَالَمِ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ تَرَصَّدُوا أَحْوَالَ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ فَاعْتَقَدُوا ارْتِبَاطَ السَّعَادَاتِ وَالنُّحُوسَاتِ بِكَيْفِيَّةِ وُقُوعِهَا فِي طَوَالِعِ النَّاسِ عَلَى أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ فَلَمَّا اعْتَقَدُوا ذَلِكَ غَلَبَ عَلَى ظُنُونِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ أَنَّ مَبْدَأَ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ فِي هَذَا الْعَالَمِ هُوَ الِاتِّصَالَاتُ الْفَلَكِيَّةُ وَالْمُنَاسَبَاتُ الْكَوْكَبِيَّةُ فَلَمَّا اعْتَقَدُوا ذَلِكَ بَالَغُوا فِي تَعْظِيمِهَا ثُمَّ مِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا وَاجِبَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ حُدُوثَهَا وَكَوْنَهَا مَخْلُوقَةً لِلْإِلَهِ الْأَكْبَرِ، إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً لِلْإِلَهِ الْأَكْبَرِ، إِلَّا أَنَّهَا هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِأَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ أَثْبَتُوا الْوَسَائِطَ بَيْنَ الْإِلَهِ الْأَكْبَرِ، وَبَيْنَ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَالْقَوْمُ اشْتَغَلُوا بِعِبَادَتِهَا وَتَعْظِيمِهَا ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ هَذِهِ الْكَوَاكِبَ قَدْ تَغِيبُ عَنِ الْأَبْصَارِ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ اتَّخَذُوا لِكُلِّ كَوْكَبٍ صَنَمًا مِنَ الْجَوْهَرِ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ وَاتَّخَذُوا صَنَمَ الشَّمْسِ مِنَ الذَّهَبِ وَزَيَّنُوهُ بِالْأَحْجَارِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى الشَّمْسِ وَهِيَ الْيَاقُوتُ وَالْأَلْمَاسُ وَاتَّخَذُوا صَنَمَ الْقَمَرِ مِنَ الْفِضَّةِ وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ ثُمَّ أَقْبَلُوا عَلَى عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ وَغَرَضُهُمْ مِنْ عِبَادَةِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ هُوَ عِبَادَةُ تِلْكَ الْكَوَاكِبِ وَالتَّقَرُّبُ إِلَيْهَا وَعِنْدَ هَذَا الْبَحْثِ يَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute