للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُدَّعِي وَشَكْلَهُ يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ فَلَا يَحْصُلُ فِيهِ التَّلْبِيسُ بِسَبَبِ ظُهُورِ تِلْكَ الْخَوَارِقِ عَلَى يَدِهِ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ إِظْهَارُهَا عَلَى يَدِ مَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ لِأَنَّهُ يُوجِبُ التَّلْبِيسَ فَكَذَا هاهنا. وَقَوْلُهُ: هَذَا رَبِّي لَا يُوجِبُ الضَّلَالَ، لِأَنَّ دَلَائِلَ بُطْلَانِهِ جَلِيَّةٌ وَفِي إِظْهَارِهِ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ اسْتِدْرَاجُهُمْ لِقَبُولِ الدَّلِيلِ فَكَانَ جَائِزًا واللَّه أَعْلَمُ.

الْوَجْهُ السَّابِعُ: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا دَعَوْهُ إِلَى عِبَادَةِ النُّجُومِ فَكَانُوا فِي تِلْكَ الْمُنَاظَرَةِ إِلَى أَنْ طَلَعَ النَّجْمُ الدُّرِّيُّ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا رَبِّي أَيْ هَذَا هُوَ الرَّبُّ الَّذِي تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ثُمَّ سَكَتَ زَمَانًا حَتَّى أَفَلَ ثُمَّ قَالَ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَهَذَا تَمَامُ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنَّهُ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ بَعْدَ الْبُلُوغِ.

أَمَّا الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ ذَكَرَهُ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَعِنْدَ الْقُرْبِ مِنْهُ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَدْ خَصَّ إِبْرَاهِيمَ بِالْعَقْلِ الْكَامِلِ وَالْقَرِيحَةِ الصَّافِيَةِ، فَخَطَرَ بِبَالِهِ قَبْلَ بُلُوغِهِ إِثْبَاتُ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ فَتَفَكَّرَ فَرَأَى النَّجْمَ، فَقَالَ: هَذَا رَبِّي فَلَمَّا شَاهَدَ حَرَكَتَهُ قَالَ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكْمَلَ بُلُوغَهُ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْبَحْثِ فَقَالَ فِي الْحَالِ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ فَهَذَا الِاحْتِمَالُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الدَّلَائِلِ الْكَثِيرَةِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةَ إِنَّمَا جَرَتْ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقْتَ اشْتِغَالِهِ بِدَعْوَةِ الْقَوْمِ إِلَى التَّوْحِيدِ واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ رُئِيَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ حَيْثُ كَانَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكَسَائِيُّ بِكَسْرِهِمَا فَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْأَلْفِ كَافٌ أَوْ هَاءٌ نَحْوَ: رَآكَ وَرَآهَا فَحِينَئِذٍ يَكْسِرُهَا حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَفْتَحُهَا ابْنُ عَامِرٍ. وَرَوَى يَحْيَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ مِثْلَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ فَإِذَا تَلَتْهُ أَلِفُ وَصْلٍ نَحْوَ: رَأَى الشَّمْسَ، وَرَأَى الْقَمَرَ. فَإِنَّ حَمْزَةَ وَيَحْيَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَنَصْرٍ عَنِ الْكِسَائِيِّ يَكْسِرُونَ الرَّاءَ وَيَفْتَحُونَ الْهَمْزَةَ وَالْبَاقُونَ يَقْرَؤُنَ جَمِيعَ ذَلِكَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْهَمْزَةِ، وَاتَّفَقُوا فِي رَأَوْكَ، وَرَأَوْهُ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: أَمَّا مَنْ فَتَحَ الرَّاءَ وَالْهَمْزَةَ فَعِلَّتُهُ وَاضِحَةٌ هي تَرْكُ الْأَلِفِ عَلَى الْأَصْلِ نَحْوَ: رَعَى وَرَمَى. وَأَمَّا مَنْ فَتَحَ الرَّاءَ وَكَسَرَ الْهَمْزَةَ فَإِنَّهُ أَمَالَ الْهَمْزَةَ نَحْوَ الْكَسْرِ لِيُمِيلَ الْأَلِفَ الَّتِي فِي رَأَى نَحْوَ الْيَاءِ وَتَرَكَ الرَّاءَ مَفْتُوحَةً على الأصل. وأما من كسر هما جَمِيعًا فَلِأَجْلِ أَنْ تَصِيرَ حَرَكَةُ الرَّاءِ مُشَابَهَةً لِحَرَكَةِ الْهَمْزَةِ، وَالْوَاحِدِيُّ طَوَّلَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي «كِتَابِ الْبَسِيطِ» فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ. واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْقِصَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وُلِدَ فِي الْغَارِ وَتَرَكَتْهُ أُمَّهُ وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُرَبِّيهِ كُلُّ ذلك محتمل فِي الْجُمْلَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي: كُلُّ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُعْجِزَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمُعْجِزِ عَلَى وَقْتِ الدَّعْوَى غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِرْهَاصِ إِلَّا إِذَا حَضَرَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ رَسُولٌ مِنَ اللَّه فَتُجْعَلُ تِلْكَ الْخَوَارِقُ مُعْجِزَةً لِذَلِكَ النَّبِيِّ. وَأَمَّا عِنْدَ أَصْحَابِنَا فَالْإِرْهَاصُ جَائِزٌ فَزَالَتِ الشُّبْهَةُ واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَدَلَّ بِأُفُولِ الْكَوْكَبِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَبًّا لَهُ وَخَالِقًا لَهُ. وَيَجِبُ عَلَيْنَا هاهنا أَنْ نَبْحَثَ عَنْ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأُفُولَ مَا هُوَ؟ وَالثَّانِي: أَنَّ الْأُفُولَ كَيْفَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ رُبُوبِيَّةِ الْكَوْكَبِ؟ فَنَقُولُ: الْأُفُولُ عِبَارَةٌ عَنْ غَيْبُوبَةِ الشَّيْءِ بَعْدَ ظُهُورِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>