للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا نُقِلَ أَنَّ ضِرَارَ بْنَ عَمْرٍو الْكُوفِيَّ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَرَى بِالْعَيْنِ، وَإِنَّمَا يَرَى بِحَاسَّةٍ سَادِسَةٍ يَخْلُقُهَا اللَّه تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَخْصِيصِ نَفِي إِدْرَاكِ اللَّه تَعَالَى بِالْبَصَرِ، وَتَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَالَ فِي غَيْرِهِ بِخِلَافِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِدْرَاكُ اللَّه بِغَيْرِ الْبَصَرِ جَائِزًا فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ سَائِرَ الْحَوَاسِّ الْمَوْجُودَةِ الْآنَ لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ ثَبَتَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى يَخْلُقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَاسَّةً سَادِسَةً بِهَا تَحْصُلُ رُؤْيَةُ اللَّه تَعَالَى وَإِدْرَاكُهُ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ أَرْبَعَةٌ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ يمكن العويل عَلَيْهَا فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّه فِي الْقِيَامَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي حِكَايَةِ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي نَفْيِ الرُّؤْيَةِ.

اعْلَمْ أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: الْإِدْرَاكُ بِالْبَصَرِ عِبَارَةٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ أَدْرَكْتُهُ بِبَصَرِي وَمَا رَأَيْتُهُ، أَوْ قَالَ رَأَيْتُهُ وَمَا أَدْرَكْتُهُ بِبَصَرِي فَإِنَّهُ يَكُونُ كَلَامُهُ مُتَنَاقِضًا، فَثَبَتَ أَنَّ الْإِدْرَاكَ بِالْبَصَرِ عِبَارَةٌ عَنِ الرُّؤْيَةِ.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَرَاهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَبْصَارِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْعُمُومِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ جَمِيعِ الْأَشْخَاصِ وَجَمِيعِ الْأَحْوَالِ عَنْهُ فَيُقَالُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ إِلَّا بَصَرَ فُلَانٍ، وَإِلَّا فِي الْحَالَةِ الفلانية والاستثناء/ يخرج من الكلام ما لو لاه لَوَجَبَ دُخُولُهُ. فَثَبَتَ أَنَّ عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ يُفِيدُ عُمُومَ النَّفْيِ عَنْ كُلِّ الْأَشْخَاصِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَرَى اللَّه تَعَالَى فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُفِيدُ الْعُمُومَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا لَمَّا أَنْكَرَتْ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي أن محمدا صلّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ تَمَسَّكَتْ فِي نُصْرَةِ مَذْهَبِ نَفْسِهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْآيَةُ مُفِيدَةً لِلْعُمُومِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ الْأَشْخَاصِ وَكُلِّ الْأَحْوَالِ لَمَا تَمَّ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عِلْمًا بِلُغَةِ الْعَرَبِ. فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى النَّفْيِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ الْأَشْخَاصِ وَذَلِكَ يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ اسْتِدْلَالِ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ أَيْضًا مَدْحٌ وَثَنَاءٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:

لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ مَدْحًا وَثَنَاءً، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا لَيْسَ بِمَدْحٍ وَثَنَاءٍ وَقَعَ فِي خِلَالِ مَا هُوَ مَدْحٌ وَثَنَاءٌ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الرَّكَاكَةَ وَهِيَ غَيْرُ لَائِقَةٍ بِكَلَامِ اللَّه.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: كُلُّ مَا كَانَ عَدَمُهُ مَدْحًا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْفِعْلِ كَانَ ثُبُوتُهُ نَقْصًا فِي حَقِّ اللَّه تَعَالَى، وَالنَّقْصُ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ، لِقَوْلِهِ: لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [الْبَقَرَةِ: ٢٥٥] وَقَوْلِهِ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: ١١] وَقَوْلُهُ: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الْإِخْلَاصِ: ٣] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ كَوْنُهُ تَعَالَى مَرْئِيًّا مُحَالٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ إِنَّمَا قَيَّدُوا ذَلِكَ بِمَا لَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ تَعَالَى تَمَدَّحَ بِنَفْيِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٨] وَقَوْلِهِ: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فُصِّلَتْ: ٤٦] مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى الظُّلْمِ عِنْدَهُمْ، فَذَكَرُوا هَذَا الْقَيْدَ دَفْعًا لِهَذَا النَّقْضِ عَنْ كَلَامِهِمْ. فَهَذَا غَايَةُ تَقْرِيرِ كَلَامِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>