تَعَالَى كَانَ يَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ سَوَاءٌ أَعْلَمَهُ بِوَقْتِ مَوْتِهِ أَوْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْإِعْلَامُ مُوجِبًا إِغْرَاءَهُ بِالْقَبِيحِ وَمِثَالُهُ أَنَّهُ تَعَالَى عَرَّفَ أَنْبِيَاءَهُ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالْعِصْمَةِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا إِغْرَاءَهُمْ بِالْقَبِيحِ لِأَجْلِ أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ مِنْهُمْ سَوَاءٌ عَرَّفَهُمْ تِلْكَ الْحَالَةَ أَوْ لَمْ يُعَرِّفْهُمْ هَذِهِ الْحَالَةَ أَنَّهُمْ يَمُوتُونَ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالْعِصْمَةِ فَلَمَّا كَانَ/ لَا يَتَفَاوَتُ حَالُهُمْ بِسَبَبِ هَذَا التَّعْرِيفِ لَا جَرَمَ مَا كَانَ ذَلِكَ التَّعْرِيفُ إِغْرَاءً بِالْقَبِيحِ فكذا هاهنا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُ إِبْلِيسَ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَضَافَ إِغْوَاءَهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٢] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَضَافَ إِغْوَاءَ الْعِبَادِ إِلَى نَفْسِهِ. فَالْأَوَّلُ: يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عَلَى مَذْهَبِ الْجَبْرِ. وَالثَّانِي: يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عَلَى مَذْهَبِ الْقَدَرِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَحَيِّرًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَوْ يُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِغْوَاءَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْمُغْوِي فَجَعَلَ نَفْسَهُ مُغْوِيًا لِغَيْرِهِ مِنَ الْغَاوِينَ ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ الْمُغْوِيَ لَهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ في تفسيره هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَالُوا:
الْإِغْوَاءُ إِيقَاعُ الْغَيِّ فِي الْقَلْبِ وَالْغَيُّ هُوَ الِاعْتِقَادُ الْبَاطِلُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ مِنَ الله تعالى. اما المعتزلة فلهم هاهنا مَقَامَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يُفَسِّرُوا الْغَيَّ بِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَذْكُرُوا فِي تَفْسِيرِهِ وَجْهًا آخَرَ.
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَلَهُمْ فِيهِ أَعْذَارٌ. الْأَوَّلُ: إِنْ قَالُوا هَذَا قَوْلُ إِبْلِيسَ فَهَبْ أَنَّ إِبْلِيسَ اعْتَقَدَ أَنَّ خَالِقَ الْغَيِّ وَالْجَهْلِ وَالْكُفْرِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. الثَّانِي: قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَعِنْدَ ذَلِكَ ظَهَرَ غَيُّهُ وَكُفْرُهُ فَجَازَ أَنْ يُضِيفَ ذَلِكَ الْغَيَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الْمَعْنَى وَقَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: لَا تَحْمِلْنِي عَلَى ضَرْبِكَ أَيْ لَا تَفْعَلْ مَا أَضْرِبُكَ عِنْدَهُ. الثَّالِثُ: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ بِمَا لَعَنْتَنِي بِسَبَبِ آدَمَ فَأَنَا لِأَجْلِ هَذِهِ الْعَدَاوَةِ أُلْقِي الْوَسَاوِسَ في قلوبهم. الرابع: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي [الحجر: ٣٩] أَيْ خَيَّبْتَنِي مِنْ جَنَّتِكَ عُقُوبَةً عَلَى عَمَلِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْإِغْوَاءِ- الْإِهْلَاكُ- وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مَرْيَمَ: ٥٩] أَيْ هَلَاكًا وَوَيْلًا وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُهُمْ: غَوَى الْفَصِيلُ يَغْوِي غَوًى إِذَا أَكْثَرَ مِنَ اللَّبَنِ حَتَّى يَفْسُدَ جَوْفُهُ وَيُشَارِفَ الْهَلَاكَ وَالْعَطَبَ وَفَسَّرُوا قَوْلَهُ: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ [هُودٍ: ٣٤] إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يهلككم بعنادكم الحق فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّا لَا نُبَالِغُ فِي بَيَانِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْإِغْوَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْإِضْلَالُ لِأَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ إِبْلِيسَ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إِلَّا أَنَّا نُقِيمُ الْبُرْهَانَ الْيَقِينِيَّ عَلَى أَنَّ الْمُغْوِيَ لِإِبْلِيسَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَاوِيَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُغْوٍ كَمَا أَنَّ الْمُتَحَرِّكَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحَرِّكٍ وَالسَّاكِنَ لَا بُدَّ لَهُ مَنْ مُسَكِّنٍ وَالْمُهْتَدِيَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ هَادٍ. فَلَمَّا كَانَ إِبْلِيسُ غاويا فلا بد له من مغوي وَالْمُغْوِي لَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسَهُ أَوْ مَخْلُوقًا آخَرَ أَوِ اللَّهَ تَعَالَى وَالْأَوَّلُ:
بَاطِلٌ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَخْتَارُ الْغَوَايَةَ مَعَ/ الْعِلْمِ بِكَوْنِهَا غَوَايَةً. وَالثَّانِي: بَاطِلٌ وَإِلَّا لَزِمَ إِمَّا التَّسَلْسُلُ وَإِمَّا الدَّوْرُ.
وَالثَّالِثُ: هُوَ الْمَقْصُودُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَبِما أَغْوَيْتَنِي فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ بَاءُ الْقَسَمِ أَيْ بِإِغْوَائِكَ إِيَّايَ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ أَيْ بِقُدْرَتِكَ عَلَيَّ وَنَفَاذِ سُلْطَانِكَ فِيَّ لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي يَسْلُكُونَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute