[الْبَقَرَةِ: ٤١] وَاعْلَمْ أَنَّ مَقَامَ التَّقْوَى مَقَامٌ شَرِيفٌ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النَّحْلِ: ١٢٨] وَقَالَ: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الْحُجُرَاتِ: ١٣]
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ النَّاسِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَغْنَى النَّاسِ فَلْيَكُنْ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَوْثَقَ مِمَّا فِي يَدِهِ»
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: التَّقْوَى تَرْكُ الْإِصْرَارِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَتَرْكُ الِاغْتِرَارِ بِالطَّاعَةِ.
قَالَ الحسن: التقوى أن لا تختار عل اللَّهِ سِوَى اللَّهِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِيَدِ اللَّهِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: التَّقْوَى أَنْ لَا يَجِدَ الْخَلْقُ فِي لِسَانِكَ عَيْبًا. وَلَا الْمَلَائِكَةُ فِي أَفْعَالِكَ عَيْبًا وَلَا مَلِكُ العرش في سرك عيباً وقال الوافدي: التَّقْوَى أَنْ تُزَيِّنَ سِرَّكَ لِلْحَقِّ كَمَا زَيَّنْتَ ظَاهِرَكَ لِلْخَلْقِ، وَيُقَالُ: التَّقْوَى أَنْ لَا يَرَاكَ مَوْلَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ، وَيُقَالُ: الْمُتَّقِي مَنْ سَلَكَ سَبِيلَ الْمُصْطَفَى، وَنَبَذَ الدُّنْيَا وَرَاءَ الْقَفَا، وَكَلَّفَ نَفْسَهُ الْإِخْلَاصَ وَالْوَفَا، وَاجْتَنَبَ الْحَرَامَ وَالْجَفَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُتَّقِي فَضِيلَةٌ إِلَّا مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ كَفَاهُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ هُدًى لِلنَّاسِ فِي قَوْلِهِ: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ [البقرة: ١٨٥] ثم قال هاهنا فِي الْقُرْآنِ: إِنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُتَّقِينَ هُمْ كُلُّ النَّاسِ، فَمَنْ لَا يَكُونُ مُتَّقِيًا كَأَنَّهُ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي السُّؤَالَاتِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: كَوْنُ الشَّيْءِ هُدًى وَدَلِيلًا لَا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، فَلِمَاذَا جَعَلَ الْقُرْآنَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ فَقَطْ؟ وأيضاً فالمتقي مهتدي، وَالْمُهْتَدِي لَا يَهْتَدِي ثَانِيًا وَالْقُرْآنُ لَا يَكُونُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ. الْجَوَابُ: الْقُرْآنُ كَمَا أَنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ وَدَلَالَةٌ لَهُمْ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ، وَعَلَى دِينِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ، فَهُوَ أَيْضًا دَلَالَةٌ لِلْكَافِرِينَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْمُتَّقِينَ مَدْحًا لِيُبَيِّنَ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا وَانْتَفَعُوا بِهِ كَمَا قَالَ: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النَّازِعَاتِ: ٤٥] وَقَالَ: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: ١١] وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنْذِرًا لِكُلِّ النَّاسِ، فَذَكَرَ هَؤُلَاءِ النَّاسَ لِأَجْلِ أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِإِنْذَارِهِ. وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَ الْهُدَى بِالدَّلَالَةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَقْصُودِ فَهَذَا السُّؤَالُ زَائِلٌ عَنْهُ، لِأَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُوَصِّلًا إِلَى الْمَقْصُودِ لَيْسَ إِلَّا فِي حَقِّ الْمُتَّقِينَ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ وَصَفَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ بِأَنَّهُ هُدًى وَفِيهِ مُجْمَلٌ وَمُتَشَابِهٌ كَثِيرٌ، وَلَوْلَا دَلَالَةُ الْعَقْلِ لَمَا تَمَيَّزَ الْمُحْكَمُ عَنِ الْمُتَشَابِهِ، فَيَكُونُ الْهُدَى/ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الدَّلَالَةُ الْعَقْلِيَّةُ لَا الْقُرْآنُ، وَمِنْ هَذَا
نُقِلَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولًا إِلَى الْخَوَارِجِ لَا تَحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ خَصْمٌ ذُو وَجْهَيْنِ،
وَلَوْ كَانَ هُدًى لَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ذَلِكَ فِيهِ، وَلِأَنَّا نَرَى جَمِيعَ فِرَقِ الْإِسْلَامِ يَحْتَجُّونَ بِهِ، وَنَرَى الْقُرْآنَ مَمْلُوءًا مِنْ آيَاتٍ بَعْضُهَا صَرِيحٌ فِي الْجَبْرِ وَبَعْضُهَا صَرِيحٌ فِي الْقَدَرِ، فَلَا يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا إلا بالتعسف الشديد، فيكف يَكُونُ هُدًى؟.
الْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ الْمُتَشَابِهَ وَالْمُجْمَلَ لَمَّا لَمْ يَنْفَكَّ عَمَّا هُوَ الْمُرَادُ عَلَى التَّعْيِينِ- وَهُوَ إِمَّا دَلَالَةُ الْعَقْلِ أَوْ دَلَالَةُ السَّمْعِ- صَارَ كُلُّهُ هُدًى. السُّؤَالُ الثَّالِثُ: كُلُّ مَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ كَوْنِ الْقُرْآنِ حُجَّةً عَلَى صِحَّتِهِ لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ هُدًى فِيهِ، فَإِذَنِ اسْتَحَالَ كَوْنُ الْقُرْآنِ هُدًى فِي مَعْرِفَةِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَفِي مَعْرِفَةِ النُّبُوَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْمَطَالِبَ أَشْرَفُ الْمَطَالِبِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ هُدًى فِيهَا فَكَيْفَ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُدًى عَلَى الْإِطْلَاقِ؟.
الْجَوَابُ: لَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِهِ هُدًى أَنْ يَكُونَ هُدًى فِي كُلِّ شَيْءٍ، بَلْ يَكْفِي فِيهِ أَنْ يَكُونَ هُدًى فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ هُدًى فِي تَعْرِيفِ الشَّرَائِعِ، أَوْ يَكُونَ هُدًى فِي تَأْكِيدِ مَا فِي الْعُقُولِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ هُدًى مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ فِي اللَّفْظِ، مع