للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَوْلِهِ: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النَّحْلِ: ٤٠] وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى الْأَمْرِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ الْكَلَامُ، وَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ هَذِهِ الْأَجْرَامَ بِالسَّيْرِ الدَّائِمِ وَالْحَرَكَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مِنَ النُّجُومِ فَذَكَرَهُمَا ثُمَّ عطف على ذكر هما ذِكْرَ النُّجُومِ وَالسَّبَبُ فِي إِفْرَادِهِمَا بِالذِّكْرِ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمَا سَبَبًا لِعِمَارَةِ هَذَا الْعَالَمِ، وَالِاسْتِقْصَاءُ فِي تَقْرِيرِهِ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، فَالشَّمْسُ سُلْطَانُ النَّهَارِ، وَالْقَمَرُ سُلْطَانُ اللَّيْلِ، وَالشَّمْسُ تَأْثِيرُهَا فِي التَّسْخِينِ وَالْقَمَرُ تَأْثِيرُهُ فِي التَّرْطِيبِ، وَتَوَلُّدُ الْمَوَالِيدِ الثَّلَاثَةِ أَعْنِي الْمَعَادِنَ وَالنَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ لَا يَتِمُّ وَلَا يَكْمُلُ إِلَّا بِتَأْثِيرِ الْحَرَارَةِ فِي الرُّطُوبَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ كُلَّ كَوْكَبٍ بِخَاصَّةٍ عَجِيبَةٍ وَتَدْبِيرٍ غَرِيبٍ لَا يَعْرِفُهُ بِتَمَامِهِ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، وَجَعَلَهُ مُعِينًا لَهُمَا فِي تِلْكَ التَّأْثِيرَاتِ وَالْمَبَاحِثُ الْمُسْتَقْصَاةُ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّمْسَ كَالسُّلْطَانِ، وَالْقَمَرَ كَالنَّائِبِ وَسَائِرَ الْكَوَاكِبِ كَالْخَدَمِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ بَدَأَ اللَّهُ سبحانه بذكر الشمس وثنى القمر ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ سَائِرِ النُّجُومِ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أنه لا موجد ولا مؤثر إلا الله سُبْحَانَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَوْجَدَ شَيْئًا وَأَثَّرَ فِي حُدُوثِ شَيْءٍ فَقَدْ قَدَرَ عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَانَ خَالِقًا، ثُمَّ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ لِأَنَّهُ قَالَ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَهَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا اللَّهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ يَصْدُرُ عَنْ فَلَكٍ أَوْ مَلَكٍ أَوْ جِنِّيٍّ أَوْ إِنْسِيٍّ، فَخَالِقُ/ ذَلِكَ الْأَمْرِ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا غَيْرُ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ تَفَرَّعَتْ عَلَيْهِ مَسَائِلُ: إِحْدَاهَا: أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذْ لَوْ حَصَلَ إِلَهَانِ لَكَانَ الْإِلَهُ الثَّانِي خَالِقًا وَمُدَبِّرًا، وَذَلِكَ يُنَاقِضُ مَدْلُولَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي تَخَصُّصِ الْخَلْقِ بِهَذَا الْوَاحِدِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْكَوَاكِبِ فِي أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ، وَإِلَّا لَحَصَلَ خَالِقٌ سِوَى اللَّهِ، وَذَلِكَ ضِدُّ مَدْلُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ الطَّبَائِعِ، وَإِثْبَاتِ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْفَلَاسِفَةُ وَأَصْحَابُ الطَّلْسَمَاتِ بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَحَصَلَ خَالِقٌ غَيْرُ اللَّهِ. وَرَابِعُهَا: خَالِقُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ هُوَ اللَّهُ، وَإِلَّا لَحَصَلَ خَالِقٌ غَيْرُ اللَّهِ. وَخَامِسُهَا: الْقَوْلُ بِأَنَّ الْعِلْمَ يُوجِبُ الْعَالِمِيَّةَ وَالْقُدْرَةَ تُوجِبُ الْقَادِرِيَّةَ بَاطِلٌ وَإِلَّا لَحَصَلَ مُؤَثِّرٌ غَيْرُ اللَّهِ، وَمُقَدِّرٌ غَيْرُ اللَّهِ، وَخَالِقٌ غَيْرُ اللَّهِ، وَإِنَّهُ بَاطِلٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ قَدِيمٌ. قَالُوا: إِنَّهُ تَعَالَى مَيَّزَ بَيْنَ الْخَلْقِ وَبَيْنَ الْأَمْرِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَخْلُوقًا لَمَا صَحَّ هَذَا التَّمْيِيزُ. أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ: عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِفْرَادِ الْأَمْرِ بِالذِّكْرِ عَقِيبَ الْخَلْقِ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَمْرُ دَاخِلًا فِي الْخَلْقِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ [الْحِجْرِ: ١] وَآيَاتُ الْكِتَابِ دَاخِلَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النَّحْلِ: ٩٠] مَعَ أَنَّ الْإِحْسَانَ دَاخِلٌ فِي الْعَدْلِ وَقَالَ: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: ٩٨] وَهُمَا دَاخِلَانِ تَحْتَ الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ الْكَعْبِيُّ: إِنَّ مَدَارَ هَذِهِ الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُغَايِرًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْكَلَامُ بَطَلَ مَذْهَبُكُمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ [الْأَعْرَافِ: ١٥٨] فَعَطَفَ الْكَلِمَاتِ عَلَى اللَّهِ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَاتُ غَيْرَ اللَّهِ وَكُلُّ مَا كَانَ غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ مُحْدَثٌ مَخْلُوقٌ، فَوَجَبَ كَوْنُ كَلِمَاتِ اللَّهِ مُحْدَثَةً مَخْلُوقَةً. وَقَالَ الْقَاضِي: أَطْبَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْأَمْرِ كَلَامَ التَّنْزِيلِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ نَفَاذُ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْغَرَضَ بِالْآيَةِ تَعْظِيمُ قُدْرَتِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: الْأَمْرُ وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ الْخَلْقِ إِلَّا أَنَّ الْأَمْرَ بِخُصُوصِ كَوْنِهِ أَمْرًا يَدُلُّ عَلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ فَقَوْلُهُ: لَهُ الْخَلْقُ

<<  <  ج: ص:  >  >>