وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ قَالُوا: وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ الْأَمْرُ لِلَّهِ لَا بِمَعْنَى كَوْنِهِ مَخْلُوقًا لَهُ، بَلْ بِمَعْنَى كَوْنِهِ صِفَةً لَهُ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ لِلَّهِ لَا بِمَعْنَى كَوْنِهِ مَخْلُوقًا لَهُ بَلْ بِمَعْنَى كَوْنِهِ صِفَةً لَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّا إِذَا قُلْنَا: لِمَ حَدَثَ هَذَا الشَّيْءُ وَلِمَ وُجِدَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؟ فَنَقُولُ: فِي جَوَابِهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ وَأَوْجَدَهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا التَّعْلِيلُ صَحِيحًا، فَلَوْ كَانَ كَوْنُهُ تَعَالَى خَالِقًا لَهُ نَفْسُ حُصُولِ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ لَكَانَ قَوْلُهُ إِنَّهُ إِنَّمَا حَدَثَ لِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهُ وَأَوْجَدَهُ جاريا مجرى قوله: إِنَّهُ إِنَّمَا حَدَثَ لِنَفْسِهِ وَلِذَاتِهِ لَا لِشَيْءٍ آخَرَ، وَذَلِكَ مُحَالٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّ صِدْقَ هَذَا الْمَعْنَى يَنْفِي كَوْنَهُ مَخْلُوقًا مِنْ قِبَلَ اللَّهِ تَعَالَى فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى خَالِقًا لِلْمَخْلُوقِ مُغَايِرًا لَذَاتِ ذَلِكَ الْمَخْلُوقِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَلْقَ غَيْرُ الْمَخْلُوقِ وَجَوَابُهُ: لَوْ كَانَ الْخَلْقُ غَيْرَ الْمَخْلُوقِ لَكَانَ إِنْ كَانَ قَدِيمًا لَزِمَ مِنْ قِدَمَهِ قِدَمُ الْمَخْلُوقِ، وَإِنْ كَانَ حَادِثًا افْتَقَرَ إِلَى خَلْقٍ آخَرَ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَمَا لَا خَلْقَ إِلَّا لِلَّهِ، فَكَذَلِكَ لَا أَمْرَ إِلَّا لِلَّهِ، وَهَذَا يَتَأَكَّدُ بِقَوْلِهِ تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام: ٥٧] وَقَوْلِهِ: فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غَافِرٍ: ١٢] وَقَوْلِهِ: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الرُّومِ: ٤] إِلَّا أَنَّهُ مُشْكِلٌ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ. أَمَّا الْآيَةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النُّورِ: ٦٣] وَأَمَّا الْخَبَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .
وَالْجَوَابُ: أَنَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ قَدْ حَصَلَ، فَيَكُونُ الْمُوجِبُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ أَمْرَ اللَّهِ لَا أَمْرَ غَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ أَمْرًا وَنَهْيًا عَلَى عِبَادِهِ، وَأَنَّ لَهُ تَكْلِيفًا عَلَى عِبَادِهِ، وَالْخِلَافُ مَعَ نُفَاةِ التَّكْلِيفِ. وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّ الْمُكَلَّفَ بِهِ إِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْوُقُوعِ كَانَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ. فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ أَمْرًا بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ وأنه محال، وإن كان معلوم اللاوقوع كَانَ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ أَمْرًا بِمَا يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى إِنْ خَلَقَ الدَّاعِيَ إِلَى فِعْلِهِ، كَانَ وَاجِبَ الْوُقُوعِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْأَمْرِ، وَإِنْ لَمْ يَخْلُقِ الدَّاعِيَ إِلَيْهِ كَانَ مُمْتَنِعَ الْوُقُوعِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْأَمْرِ بِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَمْرَ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الضَّرَرَ الْمَحْضَ، لِأَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَلَا يُطِيعُ، امْتَنَعَ أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ، إِلَّا إِذَا/ صَارَ عِلْمُ اللَّهِ جَهْلًا، وَالْعَبْدُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى تَجْهِيلِ اللَّهِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ اللَّازِمُ تَعَذَّرَ الْمَلْزُومُ فَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: لَا قُدْرَةَ لِلْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ أَصْلًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَحْصُلْ مِنَ الْأَمْرِ بِهِ إِلَّا مُجَرَّدُ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ، فَيَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ وَالتَّكْلِيفُ إِضْرَارًا مَحْضًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ الْبَتَّةَ، وَهُوَ لَا يَلِيقُ بِالرَّحِيمِ الْحَكِيمِ، وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْأَمْرَ وَالتَّكْلِيفَ إِنْ لَمْ يَكُنْ لِفَائِدَةٍ فَهُوَ عَبَثٌ، وَإِنْ كَانَ لِفَائِدَةٍ عَائِدَةٍ إِلَى الْمَعْبُودِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ وَلَيْسَ بِإِلَهٍ، وَإِنْ كَانَ لِفَائِدَةٍ عَائِدَةٍ إِلَى الْعَابِدِ فَجَمِيعُ الْفَوَائِدِ مُنْحَصِرَةٌ فِي تَحْصِيلِ النَّفْعِ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِهَا بِالتَّمَامِ وَالْكَمَالِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةِ التَّكْلِيفِ، فَكَانَ تَوْسِيطُ التَّكْلِيفِ إِضْرَارًا مَحْضًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ يَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يَأْمُرَ عِبَادَهُ، وَأَنْ يُكَلِّفَهُمْ بِمَا شَاءَ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ:
أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْخَلْقُ مِنْهُ ثَبَتَ أَنَّهُ هُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ الْعَبِيدِ، وَإِذَا كَانَ خَالِقًا لَهُمْ كَانَ مَالِكًا لَهُمْ، وَإِذَا كَانَ مَالِكًا لَهُمْ حَسُنَ مِنْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ وَيَنْهَاهُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرَّفٌ مِنَ الْمَالِكِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute