مَوْلَاهُ عَالِمٌ بِاحْتِيَاجِهِ، فَسَكَتَ وَلَمْ يَذْكُرْ تِلْكَ الْحَاجَةَ كَانَ ذَلِكَ أَدْخَلَ فِي الْأَدَبِ، وَفِي تَعْظِيمِ الْمَوْلَى مِمَّا إِذَا أَخَذَ يَشْرَحُ كَيْفِيَّةَ تِلْكَ الْحَالَةِ، وَيَطْلُبُ مَا يَدْفَعُ تِلْكَ الْحَاجَةَ، وَإِذَا كَانَ الْحَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الشَّاهِدِ، وَجَبَ اعْتِبَارُ مِثْلِهِ فِي حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلِذَلِكَ
يُقَالُ إِنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا وُضِعَ فِي الْمَنْجَنِيقِ لِيُرْمَى إِلَى النَّارِ قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ادْعُ رَبَّكَ فَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي،
فَهَذِهِ الْوُجُوهُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْبَابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الدُّعَاءَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ وَالْأَسْئِلَةُ الْمَذْكُورَةُ وَارِدَةٌ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ إِنْ كَانَ هَذَا الْإِنْسَانُ سَعِيدًا فِي عِلْمِ اللَّهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، وَإِنْ كَانَ شَقِيًّا فِي عِلْمِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي تِلْكَ الْعِبَادَاتِ، وَأَيْضًا يُقَالُ وَجَبَ أَنْ لَا يُقْدِمَ الْإِنْسَانُ عَلَى أَكْلِ الْخُبْزِ وَشُرْبِ الْمَاءِ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ هَذَا الْإِنْسَانُ شَبْعَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا حَاجَةَ إِلَى أَكْلِ الْخُبْزِ، وَإِنْ كَانَ جَائِعًا فَلَا فَائِدَةَ فِي أَكْلِ الْخُبْزِ، وَكَمَا أَنَّ هذا الكلام باطل هاهنا، فَكَذَا فِيمَا ذَكَرُوهُ، بَلْ نَقُولُ الدُّعَاءُ يُفِيدُ مَعْرِفَةَ ذِلَّةِ الْعُبُودِيَّةِ وَيُفِيدُ مَعْرِفَةَ عِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَشْرَفُ الْأَعْلَى مِنْ جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَبَيَانُهُ أَنَّ الدَّاعِيَ لَا يُقْدِمُ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَّا إِذَا عَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ كَوْنَهُ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ وَكَوْنَهُ عَاجِزًا عَنْ تَحْصِيلِهِ وَعَرَفَ مِنْ رَبِّهِ وَإِلَهِهِ أَنَّهُ يَسْمَعُ دُعَاءَهُ، وَيَعْلَمُ حَاجَتَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى دَفْعِ تِلْكَ الْحَاجَةِ وَهُوَ رَحِيمٌ تَقْتَضِي رَحْمَتُهُ إِزَالَةَ تِلْكَ الْحَاجَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ لَا يُقْدِمُ عَلَى الدُّعَاءِ إِلَّا إِذَا عَرَفَ كَوْنَهُ مَوْصُوفًا بِالْحَاجَةِ وَبِالْعَجْزِ وَعَرَفَ كَوْنَ الْإِلَهِ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفًا بِكَمَالِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَلَا مَقْصُودَ مِنْ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ إِلَّا مَعْرِفَةُ ذُلِّ الْعُبُودِيَّةِ وَعِزِّ الرُّبُوبِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ الدُّعَاءُ مُسْتَجْمِعًا لِهَذَيْنِ الْمَقَامَيْنِ لَا جَرَمَ كَانَ الدُّعَاءُ أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ التَّضَرُّعَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا مِنَ النَّاقِصِ فِي حَضْرَةِ الْكَامِلِ فَمَا لَمْ يَعْتَقِدِ الْعَبْدُ نُقْصَانَ نَفْسِهِ وَكَمَالَ مَوْلَاهُ فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ لَمْ يُقْدِمْ عَلَى التَّضَرُّعِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الدُّعَاءِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَثَبَتَ أَنَّ لَفْظَ الْقُرْآنِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَالَّذِي يُقَوِّي مَا ذَكَرْنَاهُ مَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَا مِنْ شَيْءٍ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الدُّعَاءِ وَالدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» ثُمَّ قَرَأَ: إِنَّ/ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِرٍ: ٦٠]
وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي حَقَائِقِ الدُّعَاءِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلَهُ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [الْبَقَرَةِ: ١٨٦] وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَقْرِيرِ شَرَائِطِ الدُّعَاءِ.
اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الدُّعَاءِ أَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ مُشَاهِدًا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ وَلِعَجْزِ نَفْسِهِ وَمُشَاهِدًا لِكَوْنِ مَوْلَاهُ مَوْصُوفًا بِكَمَالِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَكُلُّ هَذِهِ الْمَعَانِي دَخَلَتْ تَحْتَ قَوْلِهِ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً ثُمَّ إِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ عَلَى سَبِيلِ الْخُلُوصِ، فَلَا بُدَّ مِنْ صَوْنِهَا عَنِ الرِّيَاءِ الْمُبْطِلِ لِحَقِيقَةِ الْإِخْلَاصِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَخُفْيَةً وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ التَّضَرُّعِ تَحْقِيقُ الْحَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الدُّعَاءِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ الْإِخْفَاءِ صَوْنُ ذَلِكَ الْإِخْلَاصِ عَنْ شَوَائِبَ الرِّيَاءِ، وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا الْمَعْنَى ظَهَرَ لَكَ أَنَّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ:
تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً مُشْتَمِلٌ عَلَى كُلِّ مَا يُرَادُ تَحْقِيقُهُ وَتَحْصِيلُهُ فِي شَرَائِطِ الدُّعَاءِ، وَأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ الْبَتَّةَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَأَمَّا تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الشَّرَائِطِ، فَقَدْ بَالَغَ فِي شَرْحِهَا الشَّيْخُ سُلَيْمَانُ الْحَلِيمِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْمِنْهَاجِ فليطلب مِنْ هُنَاكَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: «التَّضَرُّعُ» التَّذَلُّلُ وَالتَّخَشُّعُ، وَهُوَ إِظْهَارُ ذُلِّ النَّفْسِ مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَرِعَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ، وَتَضَرَّعَ