ونهيه، فإن يَكُونُ مُعَاقَبًا، وَالْمُعْتَزِلَةُ تُمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ/ الْفُسَّاقِ، وَقَالُوا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ مِنْهُ الِاعْتِدَاءُ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ الْمُعْتَدِينَ لَفْظٌ عَامٌّ دَخَلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، فَيُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ غَايَتُهُ أَنَّهُ إِنَّمَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَكِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. الثَّانِي: أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ لَيْسَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يُقَالَ الْأَوْلَى تَرْكُهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ.
وَالْجَوَابُ الْمُسْتَقْصَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الْعُمُومَاتِ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِالْوَعِيدِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها مَعْنَاهُ وَلَا تُفْسِدُوا شَيْئًا فِي الْأَرْضِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَنْعُ مِنْ إِفْسَادِ النُّفُوسِ بِالْقَتْلِ وَبِقَطْعِ الْأَعْضَاءِ، وَإِفْسَادِ الْأَمْوَالِ بِالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَوُجُوهِ الْحِيَلِ، وَإِفْسَادِ الْأَدْيَانِ بِالْكَفْرِ وَالْبِدْعَةِ، وَإِفْسَادِ الْأَنْسَابِ بِسَبَبِ الْإِقْدَامِ عَلَى الزِّنَا وَالْلِّوَاطَةِ وَسَبَبِ الْقَذْفِ، وَإِفْسَادِ الْعُقُولِ بسبب شرب المكسرات، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الدُّنْيَا هِيَ هَذِهِ الْخَمْسَةُ: النُّفُوسُ وَالْأَمْوَالُ وَالْأَنْسَابُ وَالْأَدْيَانُ وَالْعُقُولُ. فَقَوْلُهُ: وَلا تُفْسِدُوا مَنْعٌ عَنْ إِدْخَالِ مَاهِيَّةِ الْإِفْسَادِ فِي الْوُجُودِ، وَالْمَنْعُ مِنْ إِدْخَالِ الْمَاهِيَّةِ فِي الْوُجُودِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِهِ وَأَصْنَافِهِ، فَيَتَنَاوَلُ الْمَنْعَ مِنَ الْإِفْسَادِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: بَعْدَ إِصْلاحِها فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَ خِلْقَتَهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُطَابِقِ لِمَنَافِعِ الْخَلْقِ وَالْمُوَافِقِ لِمَصَالِحِ الْمُكَلَّفِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَعْدَ إِصْلَاحِ الْأَرْضِ بِسَبَبِ إِرْسَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَمَّا أَصْلَحْتُ مَصَالِحَ الْأَرْضِ بِسَبَبِ إِرْسَالِ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَتَفْصِيلِ الشَّرَائِعِ فَكُونُوا مُنْقَادِينَ لَهَا، وَلَا تُقْدِمُوا عَلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَإِنْكَارِ الْكُتُبِ وَالتَّمَرُّدِ عَنْ قَبُولِ الشَّرَائِعِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي وُقُوعَ الْهَرَجِ وَالْمَرَجِ فِي الْأَرْضِ، فَيَحْصُلُ الْإِفْسَادُ بَعْدَ الْإِصْلَاحِ، وَذَلِكَ مُسْتَكْرَهٌ فِي بَدَاهَةِ الْعُقُولِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ وَالْمَنْعُ عَلَى الْإِطْلَاقِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنْ وَجَدْنَا نَصًّا خَاصًّا دَلَّ عَلَى جَوَازِ الْإِقْدَامِ عَلَى بَعْضِ الْمَضَارِّ قَضَيْنَا بِهِ تَقْدِيمًا لِلْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَإِلَّا بَقِيَ عَلَى التَّحْرِيمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا النَّصُّ.
وَاعْلَمْ أَنَّا كُنَّا قَدْ ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الْأَعْرَافِ: ٣٢] أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ وَاللَّذَّاتِ الْإِبَاحَةُ وَالْحِلُّ، ثُمَّ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ دَخَلَ تَحْتَ تِلْكَ الْآيَةِ جَمِيعُ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا تَدُلُّ/ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَضَارِّ وَالْآلَامِ، الْحُرْمَةُ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ جَمِيعُ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَبَاحِثِ وَاللَّطَائِفِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ فَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَتِلْكَ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَنَافِعِ الْحِلُّ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي جَمِيعِ الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مُطَابِقَةٌ لِلْأُخْرَى مُؤَكِّدَةٌ لِمَدْلُولِهَا مُقَرِّرَةٌ لِمَعْنَاهَا، وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ جَمِيعِ الْوَقَائِعِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ، وَأَيْضًا هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ وَقَعَ التَّرَاضِي عَلَيْهِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، فَإِنَّهُ انْعَقَدَ وَصَحَّ وَثَبَتَ، لِأَنَّ رَفْعَهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ يَكُونُ إِفْسَادًا بَعْدَ الْإِصْلَاحِ، وَالنَّصُّ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لا يجوز.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute