بِالْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ تَحَمُّلِهَا فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ السَّعِيدَ لَا ينقلب شَقِيًّا وَبِالْعَكْسِ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ قِسْمَانِ: مِنْهَا مَا تَكُونُ فِي أَصْلِ جَوْهَرِهَا طَاهِرَةً نَقِيَّةً مُسْتَعِدَّةً لِأَنْ تَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ وَمِنْهَا مَا تَكُونُ فِي أَصْلِ جَوْهَرِهَا غَلِيظَةً كَدِرَةً بَطِيئَةَ الْقَبُولِ لِلْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ كَمَا أَنَّ الْأَرَاضِيَ مِنْهَا مَا تَكُونُ سَبِخَةً فَاسِدَةً وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَلَّدَ فِي الْأَرَاضِي السَّبِخَةِ تِلْكَ الْأَزْهَارُ وَالثِّمَارُ الَّتِي تَتَوَلَّدُ فِي الْأَرْضِ الْخَيِّرَةِ، فَكَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَظْهَرَ في النفس البليدة والكدرة الغليطة مِنَ الْمَعَارِفِ الْيَقِينِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مِثْلُ مَا يَظْهَرُ فِي النَّفْسِ الطَّاهِرَةِ الصَّافِيَةِ وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا الْكَلَامَ أَنَّا نَرَى النُّفُوسَ مُخْتَلِفَةً فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ فَبَعْضُهَا مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ عَالَمِ الصَّفَاءِ وَالْإِلَهِيَّاتِ مُنْصَرِفَةٌ عَنِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [الْمَائِدَةِ: ٨٣] وَمِنْهَا قَاسِيَةٌ شَدِيدَةُ الْقَسْوَةِ وَالنَّفْرَةِ عَنْ قَبُولِ هَذِهِ الْمَعَانِي كَمَا قَالَ: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [الْبَقَرَةِ: ٧٤] وَمِنْهَا مَا تَكُونُ شَدِيدَةَ الْمَيْلِ إِلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ مُتَبَاعِدَةً عَنْ أَحْوَالِ الْغَضَبِ وَمِنْهَا مَا تَكُونُ شَدِيدَةَ الْمَيْلِ إِلَى إِمْضَاءِ الْغَضَبِ وَتَكُونُ مُتَبَاعِدَةً عَنْ أَعْمَالِ الشَّهْوَةِ بَلْ نَقُولُ: مِنَ النُّفُوسِ مَا تَكُونُ عَظِيمَةَ الرَّغْبَةِ فِي الْمَالِ دُونَ/ الْجَاهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ بِالْعَكْسِ، وَالرَّاغِبُونَ فِي طَلَبِ الْمَالِ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ عَظِيمَ الرَّغْبَةِ فِي الْعَقَارِ وَتَفْضُلُ رَغْبَتَهُ فِي النُّقُودِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَعْظُمُ رَغْبَتُهُ فِي تَحْصِيلِ النُّقُودِ وَلَا يَرْغَبُ فِي الضِّيَاعِ وَالْعَقَارِ وَإِذَا تَأَمَّلْتَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاعْتِبَارِ تَيَقَّنْتَ أَنَّ أَحْوَالَ النُّفُوسِ مُخْتَلِفَةٌ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ اخْتِلَافًا جَوْهَرِيًّا ذَاتِيًّا لَا يُمْكِنُ إِزَالَتُهُ وَلَا تَبْدِيلُهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ مِنَ النَّفْسِ الْغَلِيظَةِ الجاهلية الْمَائِلَةِ بِالطَّبْعِ إِلَى أَفْعَالِ الْفُجُورِ أَنْ تَصِيرَ نَفْسًا مُشْرِقَةً بِالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ، وَلَمَّا ثَبَتَ هَذَا كَانَ تَكْلِيفُ هَذِهِ النَّفْسِ بِتِلْكَ الْمَعَارِفِ الْيَقِينِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ جَارِيًا مَجْرَى تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ فَثَبَتَ بِهَذَا الْبَيَانِ: أَنَّ السعيد من سعيد فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَأَنَّ النَّفْسَ الطَّاهِرَةَ يَخْرُجُ نَبَاتُهَا مِنَ الْمَعَارِفِ الْيَقِينِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَالنَّفْسَ الْخَبِيثَةَ لَا يَخْرُجُ نَبَاتُهَا إِلَّا نَكِدًا قَلِيلَ الْفَائِدَةِ وَالْخَيْرِ كَثِيرَ الْفُضُولِ وَالشَّرِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بِإِذْنِ رَبِّهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَعْمَلُهُ الْمُؤْمِنُ مِنْ خَيْرٍ وَطَاعَةٍ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قُرِئَ يَخْرُجُ نَباتُهُ أَيْ يُخْرِجُهُ الْبَلَدُ وَيُنْبِتُهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِي خَبُثَ قال القراء: يُقَالُ: خَبُثَ الشَّيْءُ يَخْبُثُ خُبْثًا وَخَبَاثَةً. وَقَوْلُهُ: إِلَّا نَكِداً النَّكِدُ: الْعَسِرُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ إِعْطَاءِ الْخَيْرِ عَلَى جِهَةِ الْبُخْلِ. وَقَالَ اللَّيْثُ: النَّكِدُ: الشُّؤْمُ وَاللُّؤْمُ وَقِلَّةُ الْعَطَاءِ وَرَجُلٌ أَنْكَدُ وَنَكِدٌ قَالَ:
وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَهُ طَيِّبًا ... لَا خَيْرَ فِي الْمَنْكُودِ وَالنَّاكِدِ
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَالَّذِي خَبُثَ صِفَةٌ لِلْبَلَدِ وَمَعْنَاهُ وَالْبَلَدُ الْخَبِيثُ لَا يَخْرُجُ نَبَاتُهُ إِلَّا نَكِدًا فَحُذِفَ الْمُضَافُ الَّذِي هُوَ النَّبَاتُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ الَّذِي هُوَ الرَّاجِعُ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ مَقَامَهُ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ مَجْرُورًا بَارِزًا فَانْقَلَبَ مَرْفُوعًا مُسْتَكِنًّا لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ الْفَاعِلِ أَوْ يُقَدَّرُ وَنَبَاتُ الَّذِي خَبُثَ وَقُرِئَ نَكِداً بِفَتْحِ الْكَافِ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ ذَا نَكَدٍ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute