للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يَحْكُمُ بِإِيمَانِ مَنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا لِذَاتِهِ أَوْ بِالْعِلْمِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْقَيْدُ وَأَمْثَالُهُ شَرْطًا مُعْتَبَرًا فِي تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ لَمَا جَازَ أَنْ يَحْكُمَ الرَّسُولُ بِإِيمَانِهِ قَبْلَ أَنْ يُجَرِّبَهُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَعْرِفُ ذَلِكَ أَمْ لَا. فَهَذَا هُوَ بَيَانُ الْقَوْلِ في تحقيق الإيمان، فإن قال قائل: ها هنا صُورَتَانِ: الصُّورَةُ الْأُولَى: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ وَلَمَّا تَمَّ الْعِرْفَانُ مَاتَ وَلَمْ يَجِدْ مِنَ الزَّمَانِ وَالْوَقْتِ مَا يَتَلَفَّظُ فِيهِ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ. فَهَهُنَا إِنْ حَكَمْتُمْ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَقَدْ حَكَمْتُمْ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ اللِّسَانِيَّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي تَحْقِيقِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَإِنْ حَكَمْتُمْ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤْمِنٍ فَهُوَ بَاطِلٌ،

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ»

وَهَذَا قَلْبٌ طَافِحٌ بِالْإِيمَانِ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا؟ الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِالدَّلِيلِ وَوَجَدَ مِنَ الْوَقْتِ مَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهَا فَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّهُ مُؤْمِنٌ فَهُوَ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَإِنْ قلتم ليس يؤمن فَهُوَ بَاطِلٌ،

لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ»

وَلَا يَنْتَفِي الْإِيمَانُ مِنَ الْقَلْبِ بِالسُّكُوتِ عَنِ النُّطْقِ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْغَزَالِيَّ مَنَعَ مِنْ هَذَا الْإِجْمَاعِ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَحَكَمَ بِكَوْنِهِمَا مُؤْمِنَيْنِ، وَأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنِ النُّطْقِ يَجْرِي مَجْرَى الْمَعَاصِي الَّتِي يُؤْتَى بِهَا مَعَ الْإِيمَانِ.

الْمَسْأَلَةُ الرابعة: قيل: بِالْغَيْبِ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامِ اسْمِ الْفَاعِلِ، كَالصَّوْمِ بِمَعْنَى الصَّائِمِ، وَالزَّوْرِ بِمَعْنَى الزَّائِرِ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ- أَنَّ قَوْلَهُ:

بِالْغَيْبِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ حَالَ الْغَيْبِ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَالَ الْحُضُورِ، لَا كَالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:

ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يُوسُفَ: ٥٢] وَيَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: نِعْمَ الصَّدِيقُ لَكَ فُلَانٌ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَدْحٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِكَوْنِ ظَاهِرِهِمْ مُوَافِقًا لِبَاطِنِهِمْ وَمُبَايَنَتِهِمْ لِحَالِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْغَيْبَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ غَائِبًا عَنِ الْحَاسَّةِ ثُمَّ هَذَا الْغَيْبُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَإِلَى مَا لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. فَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَدْحُ الْمُتَّقِينَ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ بِأَنْ يَتَفَكَّرُوا وَيَسْتَدِلُّوا فَيُؤْمِنُوا بِهِ، وَعَلَى هَذَا يَدْخُلُ فِيهِ الْعِلْمُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِصِفَاتِهِ وَالْعِلْمُ بِالْآخِرَةِ وَالْعِلْمُ بِالنُّبُوَّةِ وَالْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ وَبِالشَّرَائِعِ فَإِنَّ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْعُلُومِ بِالِاسْتِدْلَالِ مَشَقَّةً فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ الثَّنَاءِ الْعَظِيمِ. وَاحْتَجَّ أَبُو مُسْلِمٍ عَلَى قَوْلِهِ بِأُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [الْبَقَرَةِ: ٤] إِيمَانٌ بِالْأَشْيَاءِ الْغَائِبَةِ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ هُوَ الْإِيمَانُ بِالْأَشْيَاءِ الْغَائِبَةِ لَكَانَ الْمَعْطُوفُ نَفْسَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ: الثَّانِي: لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ يَلْزَمُ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ/ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الْأَنْعَامِ: ٥٩] أَمَّا لَوْ فَسَّرْنَا الْآيَةَ بِمَا قُلْنَا لَا يَلْزَمُ هَذَا الْمَحْذُورُ الثَّالِثُ: لَفْظُ الْغَيْبِ إِنَّمَا يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَى مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْحُضُورُ، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْغَيْبِ عَلَى ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، فَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ لَمَا دَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَلَا يَبْقَى فِيهِ إِلَّا الْإِيمَانُ بِالْآخِرَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الرُّكْنَ الْعَظِيمَ فِي الْإِيمَانِ هُوَ الْإِيمَانُ بِذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنًى يَقْتَضِي خُرُوجَ الْأَصْلِ أَمَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي اخْتَرْنَاهُ لَمْ يَلْزَمْنَا هَذَا الْمَحْذُورُ.