للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَمِينًا. فَالْفَرْقُ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَعْلَى شَأْنًا وَأَعْظَمَ مَنْصِبًا فِي النُّبُوَّةِ مِنْ هُودٍ فَلَمْ يَبْعُدْ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ نُوحًا كَانَ يَعْلَمُ مِنْ أَسْرَارِ حُكْمِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ هُودٌ فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمْسَكَ هُودٌ لِسَانَهُ عَنْ ذِكْرِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ وَاقْتَصَرَ عَلَى أَنَّ وَصْفَ نَفْسِهِ بِكَوْنِهِ أَمِينًا: وَمَقْصُودٌ مِنْهُ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِمْ: وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَثَانِيهَا: أَنَّ مَدَارَ أَمْرِ الرِّسَالَةِ وَالتَّبْلِيغِ عَنِ اللَّهِ عَلَى الْأَمَانَةِ فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِكَوْنِهِ أَمِينًا تَقْرِيرًا لِلرِّسَالَةِ وَالنُّبُوَّةِ. وَثَالِثُهَا: كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: كُنْتُ قَبْلَ هَذِهِ الدَّعْوَى أَمِينًا فِيكُمْ مَا وَجَدْتُمْ مِنِّي غَدْرًا وَلَا مَكْرًا وَلَا كَذِبًا وَاعْتَرَفْتُمْ لِي بِكَوْنِي أَمِينًا فَكَيْفَ نَسَبْتُمُونِي الْآنَ إِلَى الْكَذِبِ؟

/ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمِينَ هُوَ الثِّقَةُ وَهُوَ فَعِيلٌ مِنْ أَمِنَ يَأْمَنُ أَمْنًا فَهُوَ آمِنٌ وَأَمِينٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا قَالُوا لَهُ: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ فَهُوَ لَمْ يُقَابِلْ سَفَاهَتَهُمْ بِالسَّفَاهَةِ بَلْ قَابَلَهَا بِالْحِلْمِ وَالْإِغْضَاءِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى قَوْلِهِ: لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الِانْتِقَامِ أَوْلَى كَمَا قَالَ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفُرْقَانِ: ٧٢] .

أَمَّا قَوْلَهُ: وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ فَهُوَ مَدْحٌ لِلنَّفْسِ بِأَعْظَمِ صِفَاتِ الْمَدْحِ. وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعْلَامُ الْقَوْمِ بِذَلِكَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَدْحَ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ جَائِزٌ.

وَالْفَرْقُ السَّادِسُ: بَيْنَ الْقِصَّتَيْنِ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: ٦٣] وَفِي قِصَّةِ هُودٍ أَعَادَ هَذَا الْكَلَامَ بِعَيْنِهِ إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ مِنْهُ قَوْلَهُ: وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ فِي الْقِصَّةِ الْأُولَى أَنَّ فَائِدَةَ الْإِنْذَارِ هِيَ حُصُولُ التَّقْوَى الْمُوجِبَةِ لِلرَّحْمَةِ لَمْ يَكُنْ إِلَى إِعَادَتِهِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ حَاجَةٌ وَأَمَّا بَعْدَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَكُلُّهُ مِنْ خَوَاصِّ قِصَّةِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف: ٦٩] .

[في قَوْلُهُ تَعَالَى أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ إلى آخر الآية] وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْخُلَفَاءِ وَالْخَلَائِفِ وَالْخَلِيفَةِ قَدْ مَضَى فِي مَوَاضِعَ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ تَذَكُّرَ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ يُوجِبُ الرَّغْبَةَ وَالْمَحَبَّةَ وَزَوَالَ النَّفْرَةِ وَالْعَدَاوَةِ وَقَدْ ذَكَرَ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ هاهنا نَوْعَيْنِ مِنَ الْإِنْعَامِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَذَلِكَ بِأَنْ أَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ. وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً وَفِيهِ مَبَاحِثُ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْخَلْقُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ فَهَذَا اللَّفْظُ إِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الشَّيْءِ الَّذِي لَهُ مِقْدَارٌ وَجُثَّةٌ وَحَجْمِيَّةٌ فَكَانَ الْمُرَادُ حُصُولَ الزِّيَادَةِ فِي أَجْسَامِهِمْ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ هَذَا اللَّفْظَ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْقُوَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُوَى وَالْقُدَرَ مُتَفَاوِتَةٌ فَبَعْضُهَا أَعْظَمُ وَبَعْضُهَا أَضْعَفُ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: لفظ الآية يدل على حصول الزيادة واعتداد تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ الْبَتَّةَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّ الْعَقْلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ زِيَادَةً عَظِيمَةً وَاقِعَةً عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَادِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهَا بِالذِّكْرِ فِي مَعْرِضِ الْأَنْعَامِ فَائِدَةٌ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ أَطْوَلُهُمْ مِائَةَ ذِرَاعٍ وَأَقْصَرُهُمْ سِتِّينَ ذِرَاعًا وَقَالَ آخَرُونَ: تِلْكَ الزِّيَادَةُ هِيَ مِقْدَارُ مَا تَبْلُغُهُ يَدَا إِنْسَانٍ إِذَا رَفَعَهُمَا فَفُضِّلُوا عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِمْ بِهَذَا الْقَدْرِ وَقَالَ قَوْمٌ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً كَوْنَهُمْ مِنْ قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ مُتَشَارِكِينَ فِي الْقُوَّةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>