[في قوله تعالى قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ] ثُمَّ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ هَذَا الْكَلَامِ: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّهُ وَقَعَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعَذَابَ لِأَنَّ الْعَذَابَ مَا كَانَ حَاصِلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ الْقَاضِي: تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِنَا ظَاهِرٌ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى أَحْدَثَ ارادة في ذلك الوقت لان بَعْدَ كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ حَدَثَتْ هَذِهِ الْإِرَادَةُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ عِنْدَنَا بَاطِلٌ بَلْ عِنْدَنَا فِي الْآيَةِ وُجُوهٌ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِنُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا حَدَثَ الْإِعْلَامُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا جَرَمَ قَالَ هُودٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ: وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ جَعَلَ التَّوَقُّعَ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ نُزُولِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَاقِعِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُكَ لِمَنْ طَلَبَ مِنْكَ شَيْئًا قَدْ كَانَ ذَلِكَ بِمَعْنَى أَنَّهُ سَيَكُونُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: ١] بِمَعْنَى: سَيَأْتِي أَمْرُ اللَّهِ. وَثَالِثُهَا:
أَنَّا نَحْمِلُ قَوْلَهُ: وَقَعَ عَلَى مَعْنَى وُجِدَ وَحَصَلَ وَالْمَعْنَى: إِرَادَةُ إِيقَاعِ الْعَذَابِ عَلَيْكُمْ حَصَلَتْ مِنَ الْأَزَلِ إِلَى الْأَبَدِ لِأَنَّ قَوْلَنَا: حَصَلَ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِالْحُدُوثِ بَعْدَ مَا لَمْ يَكُنْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الرِّجْسُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعَذَابَ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْغَضَبِ/ الْعَذَابُ فَلَوْ حَمَلْنَا الرِّجْسَ عَلَيْهِ لَزِمَ التَّكْرِيرُ وَأَيْضًا الرِّجْسُ ضِدُّ التَّزْكِيَةِ وَالتَّطْهِيرِ. قَالَ تَعَالَى: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التَّوْبَةِ: ١٠٣] وَقَالَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْبَيْتِ: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الْأَحْزَابِ: ٣٣] وَالْمُرَادُ التَّطَهُّرُ مِنَ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمَذْمُومَةِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرِّجْسُ عِبَارَةً عَنِ الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَفْعَالِ الْمَذْمُومَةِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُمْ بِالْعَقَائِدِ الْمَذْمُومَةِ وَالصِّفَاتِ الْقَبِيحَةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ الْقَفَّالُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرِّجْسُ هُوَ الِازْدِيَادُ فِي الْكُفْرِ بِالرَّيْنِ عَلَى الْقُلُوبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَةِ: ١٢٥] أَيْ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ رَيْنٌ عَلَى قُلُوبِكُمْ عُقُوبَةً مِنْهُ لَكُمْ بِالْخِذْلَانِ لِإِلْفِكُمُ الْكُفْرَ وَتَمَادِيكُمْ فِي الْغَيِّ.
وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُفْرَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْقَفَّالُ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ ذَلِكَ فَقَدْ جَاءَ بِالْوِفَاقِ إِلَّا أَنَّهُ شَدِيدُ النَّفْرَةِ عَنْ هَذَا الْمَذْهَبِ وَأَكْثَرُ تَأْوِيلِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْجَوَابَ عَمَّا شَرَحْنَاهُ فَهُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يُوجِبُ رَفْعَ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِي الْآيَةِ: أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا أَصَرُّوا عَلَى التَّقْلِيدِ وَعَدَمِ الِانْقِيَادِ لِلدَّلِيلِ زَادَهُمُ اللَّهُ كُفْرًا وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ ثُمَّ خَصَّهُمْ بِمَزِيدِ الْغَضَبِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَغَضَبٌ.
ثُمَّ قَالَ: أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ وَالْمُرَادُ مِنْهُ:
الِاسْتِفْهَامُ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ الْأَصْنَامَ بِالْآلِهَةِ مَعَ أَنَّ مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ فِيهَا مَعْدُومٌ وَسَمَّوْا وَاحِدًا مِنْهَا بِالْعُزَّى مُشْتَقًّا مِنَ الْعِزِّ وَاللَّهُ مَا أَعْطَاهُ عِزًّا أَصْلًا وَسَمَّوْا آخَرَ مِنْهَا بِاللَّاتِ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ شَيْءٌ. وَقَوْلُهُ: مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ عِبَارَةٌ عَنْ خُلُوِّ مَذَاهِبِهِمْ عَنِ الْحُجَّةِ وَالْبَيِّنَةِ ثُمَّ إِنَّهُ عليه