فَجُثُومِ الطَّيْرِ هُوَ وُقُوعُهُ لَاطِئًا بِالْأَرْضِ فِي حَالِ سُكُونِهِ بِاللَّيْلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ أَصْبَحُوا جَاثِمِينَ خَامِدِينَ لَا يَتَحَرَّكُونَ مَوْتَى، يُقَالُ: النَّاسُ جَثْمٌ أَيْ قُعُودٌ لَا حَرَاكَ بِهِمْ وَلَا يُحِسُّونَ بشيء، ومن الْمُجَثَّمَةُ الَّتِي جَاءَ النَّهْيُ عَنْهَا، وَهِيَ الْبَهِيمَةُ الَّتِي تُرْبَطُ لِتُرْمَى، فَثَبَتَ أَنَّ الْجُثُومَ عِبَارَةٌ عَنِ السُّكُونِ وَالْخُمُودِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَمَّا سَمِعُوا الصَّيْحَةَ الْعَظِيمَةَ تَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ وَمَاتُوا جَاثِمِينَ عَلَى الرُّكَبِ، وَقِيلَ بَلْ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَقِيلَ وَصَلَتِ الصَّاعِقَةُ إِلَيْهِمْ فَاحْتَرَقُوا وَصَارُوا كَالرَّمَادِ. وَقِيلَ: بَلْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ سَقَطَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ. وهاهنا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا: يَا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ قَالَ تَعَالَى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّجْفَةَ أَخَذَتْهُمْ عَقِيبَ مَا ذَكَرُوا ذَلِكَ الْكَلَامَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هُودٍ: ٦٥] .
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ عَقِيبَ الشَّيْءِ بِمُدَّةٍ قَلِيلَةٍ قَدْ يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُ حَصَلَ عَقِيبَهُ فَزَالَ السُّؤَالُ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: طَعَنَ قَوْمٌ مِنَ الْمُلْحِدِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِأَنَّ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ قَدِ اخْتَلَفَتْ فِي حِكَايَةِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ، وَهِيَ الرَّجْفَةُ وَالطَّاغِيَةُ وَالصَّيْحَةُ، وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ التَّنَاقُضَ.
وَالْجَوَابُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الطَّاغِيَةُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا تَجَاوَزَ حَدَّهُ سَوَاءٌ كَانَ حَيَوَانًا أَوْ غَيْرَ حَيَوَانٍ وَأَلْحَقَ الْهَاءَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ، فَالْمُسْلِمُونَ يُسَمُّونَ الْمَلِكَ الْعَاتِيَ بِالطَّاغِيَةِ وَالطَّاغُوتِ. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [الْعَلَقِ: ٦ ٧] وَيُقَالُ: طَغَى طُغْيَانًا وَهُوَ طَاغٍ وَطَاغِيَةٌ. وَقَالَ تَعَالَى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها [الشَّمْسِ: ١١] وَقَالَ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ [الْحَاقَّةِ: ١١] أَيْ غَلَبَ وَتَجَاوَزَ عَنِ الْحَدِّ، وَأَمَّا الرَّجْفَةُ، فَهِيَ الزَّلْزَلَةُ فِي الْأَرْضِ، وَهِيَ حَرَكَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْمُعْتَادِ، فَلَمْ يَبْعُدْ إِطْلَاقُ اسْمِ الطَّاغِيَةِ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الصَّيْحَةُ، فَالْغَالِبُ أَنَّ الزَّلْزَلَةَ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الصَّيْحَةِ الْعَظِيمَةِ الْهَائِلَةِ وَأَمَّا الصَّاعِقَةُ، فَالْغَالِبُ أَنَّهَا الزَّلْزَلَةُ وَكَذَلِكَ الزَّجْرَةُ قَالَ تَعَالَى: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النَّازِعَاتِ: ١٣ ١٤] فَبَطَلَ ما قال الطَّاعِنُ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ شَاهَدُوا خروج الناقة عن الصَّخْرَةِ وَذَلِكَ مُعْجِزَةٌ قَاهِرَةٌ تُقَرِّبُ حَالَ الْمُكَلَّفِينَ عِنْدَ مُشَاهَدَةِ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ مِنَ الْإِلْجَاءِ، وَأَيْضًا شَاهَدُوا أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي كَانَ شِرْبًا لِكُلِّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ فِي أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ، كَانَ شِرْبًا لِتِلْكَ النَّاقَةِ الْوَاحِدَةِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَذَلِكَ أَيْضًا مُعْجِزَةٌ قَاهِرَةٌ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا نَحَرُوهَا، وَكَانَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ تَوَعَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ إِنْ/ نَحَرُوهَا، فَلَمَّا شَاهَدُوا بَعْدَ إِقْدَامِهِمْ عَلَى نَحْرِهَا آثَارَ الْعَذَابِ، وَهُوَ مَا يُرْوَى أَنَّهُمُ احْمَرُّوا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ اصْفَرُّوا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، ثُمَّ اسْوَدُّوا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَمَعَ مُشَاهَدَةِ تِلْكَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ في أول الأمر، ثم شاهدا نُزُولَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، هَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَبْقَى الْعَاقِلُ مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ مُصِرًّا عَلَى كُفْرِهِ غَيْرَ تَائِبٍ مِنْهُ؟
وَالْجَوَابُ الاول أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ قَبْلَ أَنْ شَاهَدُوا تِلْكَ الْعَلَامَاتِ كَانُوا يُكَذِّبُونَ صَالِحًا فِي نُزُولِ الْعَذَابِ فَلَمَّا شَاهَدُوا الْعَلَامَاتِ خَرَجُوا عِنْدَ ذَلِكَ عَنْ حَدِّ التَّكْلِيفِ وَخَرَجُوا عَنْ أَنْ تَكُونَ تَوْبَتُهُمْ مقبولة.
ثم قال تعالى: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ [إلى آخر الآية] وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَوَلَّى عَنْهُمْ بَعْدَ أَنْ مَاتُوا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute