للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنَّ نَعُودَ إِلَى مِلَّتِكُمْ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ يُعِيدَنَا إِلَى تِلْكَ الْمِلَّةِ، وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْمِلَّةُ كُفْرًا، كَانَ هَذَا تَجْوِيزًا مِنْ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُعِيدَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، فَكَادَ هَذَا يَكُونُ تَصْرِيحًا مِنْ شُعَيْبٍ بِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ شَاءَ رَدَّ الْمُسْلِمَ إِلَى الْكُفْرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَذْهَبِنَا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَلَمْ تَزَلِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَكَابِرُ يَخَافُونَ الْعَاقِبَةَ وَانْقِلَابَ الْأَمْرِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٥] وَكَثِيرًا مَا

كَانَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَطَاعَتِكَ»

وَقَالَ يُوسُفُ: تَوَفَّنِي مُسْلِماً [يُوسُفَ: ١٠١] أَجَابَتِ الْمُعْتَزِلَةَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَعُودَ إِلَى تِلْكَ الْمِلَّةِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَنْ يُعِيدَنَا إِلَيْهَا قَضِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ، وَلَيْسَ فِيهَا بَيَانٌ أَنَّهُ تَعَالَى شَاءَ ذَلِكَ أَوْ مَا شَاءَ. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا مَذْكُورٌ عَلَى طَرِيقِ التَّبْعِيدِ، كَمَا يُقَالُ: لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا ابْيَضَّ الْقَارُ، وَشَابَ الْغُرَابُ: فَعَلَّقَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَوْدَهُ إِلَى مِلَّتِهِمْ عَلَى مَشِيئَتِهِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ نَفْيًا لِذَلِكَ أَصْلًا، فَهُوَ عَلَى طَرِيقِ التَّبْعِيدِ، لَا عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ لَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ أَنَّ الَّذِي شَاءَهُ اللَّهُ مَا هُوَ، فَنَحْنُ نَحْمِلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا بِأَنْ يُظْهِرَ هَذَا الْكُفْرَ مِنْ أَنْفُسِنَا إِذَا أَكْرَهْتُمُونَا عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ عَلَى إِظْهَارِ الْكُفْرِ بِالْقَتْلِ يَجُوزُ إِظْهَارُهُ، وَمَا كَانَ جَائِزًا كَانَ مُرَادًا لِلَّهِ تَعَالَى وَكَوْنُ الضَّمِيرِ أَفْضَلَ مِنَ الْإِظْهَارِ، لَا يُخْرِجُ ذَلِكَ الْإِظْهَارَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ غَسْلُ الرجلين أفضل. الرابع: ان قوله: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ الْمُرَادُ الْإِخْرَاجُ عَنِ الْقَرْيَةِ، فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها أَيِ الْقَرْيَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ كَانَ حَرَّمَ عَلَيْهِ إِذَا أَخْرَجُوهُ عَنِ الْقَرْيَةِ أَنْ يَعُودَ فِيهَا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ. الْخَامِسُ: أَنْ نَقُولَ يَجِبُ حمل المشيئة هاهنا عَلَى الْأَمْرِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ إِذَا شَاءَ كَانَ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا. وَقَوْلُهُ: لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها أَيْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَوْدُ جَائِزًا، وَالْمَشِيئَةُ عِنْدَ اهل السنة لا يوجب جَوَازَ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَشَاءُ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهُ، إِنَّمَا الَّذِي يُوجِبُ/ الْجَوَازَ هُوَ الْأَمْرُ فَثَبَتَ أَنَّ المراد من المشيئة هاهنا الْأَمْرُ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ: إِلَّا أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِعَوْدِنَا فِي مِلَّتِكُمْ فَإِنَّا نَعُودُ إِلَيْهَا، وَالشَّرِيعَةُ الَّتِي صَارَتْ مَنْسُوخَةً، لَا يَبْعُدُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ بِالْعَمَلِ بِهَا مَرَّةً أُخْرَى، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَسْقُطُ اسْتِدْلَالُكُمْ.

وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: لِلْقَوْمِ فِي الْجَوَابِ مَا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ، فَقَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الْمِلَّةِ الشَّرِيعَةُ الَّتِي يَجُوزُ اخْتِلَافُ الْعِبَادَةِ فِيهَا بِالْأَوْقَاتِ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَغَيْرِهِمَا، فَقَالَ شُعَيْبٌ: وَمَا يكون لنا ان نعود في ملتكم وَلَمَّا دَخَلَ فِي ذَلِكَ كُلُّ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَكَانَ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ بَاقِيًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ، لَا جَرَمَ قَالَ:

إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَالْمَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِبْقَاءَ بَعْضِهَا فَيَدُلَّنَا عَلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ نَعُودُ إِلَيْهَا فَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ عَائِدٌ إِلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي يَجُوزُ دُخُولُ النَّسْخِ وَالتَّغْيِيرِ فِيهَا، وَغَيْرُ عَائِدٍ إِلَى مَا لَا يَقْبَلُ التَّغَيُّرَ الْبَتَّةَ فَهَذِهِ أَسْئِلَةُ الْقَوْمِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَهِيَ جَيِّدَةٌ، وَفِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا كَثْرَةٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ضَعْفِ اسْتِدْلَالِ أَصْحَابِنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ دُخُولُ الضَّعْفِ فِي الْمَذْهَبِ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: لَمَّا قَالُوا ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ شَاءَ اللَّهُ عَوْدَنَا إِلَيْهَا لَكَانَ لَنَا أَنْ نَعُودَ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وُجُودَهُ، كَانَ فِعْلُهُ جَائِزًا مَأْذُونًا فِيهِ، وَلَمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>