وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْبَيَاضُ كَالْعَيْبِ بَيَّنَ الله تعالى في غير هذه الأيد أَنَّهُ كَانَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ.
فَإِنْ قِيلَ: بِمَ يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: لِلنَّاظِرِينَ.
قُلْنَا: يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: بَيْضاءُ وَالْمَعْنَى: فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّظَّارَةِ وَلَا تَكُونُ بَيْضَاءَ لِلنَّظَّارَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ بَيَاضُهَا بَيَاضًا عَجِيبًا خَارِجًا عَنِ الْعَادَةِ يَجْتَمِعُ النَّاسُ لِلنَّظَرِ إِلَيْهِ كَمَا تَجْتَمِعُ النَّظَّارَةُ لِلْعَجَائِبِ. وَبَقِيَ هاهنا مَبَاحِثُ:
فَأَوَّلُهَا: أَنَّ انْقِلَابَ الْعَصَا ثُعْبَانًا مِنْ كَمْ وَجْهٍ يَدُلُّ عَلَى الْمُعْجِزِ؟ وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْمُعْجِزَ كَانَ أَعْظَمَ أَمِ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ؟ وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَيْنِ الْمَطْلُوبَيْنِ فِي سُورَةِ طه. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُعْجِزَ الْوَاحِدَ كَانَ كَافِيًا.
فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَانَ عَبَثًا.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ كَثْرَةَ الدَّلَائِلِ تُوجِبُ الْقُوَّةَ فِي الْيَقِينِ وَزَوَالِ الشَّكِّ وَمِنَ الْمُلْحِدِينَ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالثُّعْبَانِ وَبِالْيَدِ الْبَيْضَاءِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنَّ حُجَّةَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ قَوِيَّةً ظَاهِرَةً قَاهِرَةً فَتِلْكَ الْحُجَّةُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا أَبْطَلَتْ أَقْوَالَ الْمُخَالِفِينَ وَأَظْهَرَتْ فَسَادَهَا كَانَتْ كَالثُّعْبَانِ الْعَظِيمِ الَّذِي يَتَلَقَّفُ حُجَجَ الْمُبْطِلِينَ وَمِنْ حَيْثُ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي نَفْسِهَا وُصِفَتْ بِالْيَدِ الْبَيْضَاءِ كَمَا يُقَالُ فِي الْعُرْفِ: لِفُلَانٍ يَدٌ بَيْضَاءُ فِي الْعِلْمِ الْفُلَانِيِّ أَيْ قُوَّةٌ كَامِلَةٌ وَمَرْتَبَةٌ ظَاهِرَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ حَمْلَ هَذَيْنِ الْمُعْجِزَيْنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجْرِي مَجْرَى دَفْعِ التَّوَاتُرِ وَتَكْذِيبِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَلَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ انْقِلَابَ الْعَصَا حَيَّةً أَمْرٌ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ فَأَيُّ حَامِلٍ يَحْمِلُنَا عَلَى الْمَصِيرِ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ؟ وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَظْهَرَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ. حُكِيَ عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ السِّحْرَ كَانَ غَالِبًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَرَاتِبَ السَّحَرَةِ كَانَتْ مُتَفَاضِلَةً مُتَفَاوِتَةً وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَحْصُلُ فِيهِمْ مَنْ يَكُونُ غَايَةً فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ وَنِهَايَةً فِيهِ فَالْقَوْمُ زَعَمُوا أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِكَوْنِهِ فِي النِّهَايَةِ مِنْ عِلْمِ السِّحْرِ أَتَى بِتِلْكَ الصِّفَةِ ثُمَّ ذَكَرُوا أَنَّهُ إِنَّمَا أَتَى بِذَلِكَ السِّحْرِ لِكَوْنِهِ طَالِبًا لِلْمُلْكِ وَالرِّيَاسَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ أَنَّهُ قَالَهُ فِرْعَوْنُ لقومه وحكى هاهنا أَنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ قَالُوهُ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَا يَمْتَنِعُ أَنَّهُ قَدْ قَالَهُ هُوَ وَقَالُوهُ هُمْ فَحَكَى اللَّهُ تعالى قوله ثم وقولهم هاهنا والثاني: لعل فرعون قاله ابتداء/ فتلقنه الْمَلَأُ مِنْهُ فَقَالُوهُ لِغَيْرِهِ أَوْ قَالُوهُ عَنْهُ لِسَائِرِ النَّاسِ عَلَى طَرِيقِ التَّبْلِيغِ فَإِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا رَأَوْا رَأْيًا ذَكَرُوهُ لِلْخَاصَّةِ وَهُمْ يَذْكُرُونَهُ للعامة فكذا هاهنا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَماذا تَأْمُرُونَ فَقَدْ ذَكَرَ الزَّجَّاجُ فِيهِ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلَامَ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ثُمَّ عِنْدَ هَذَا الْكَلَامِ قَالَ فِرْعَوْنُ مُجِيبًا لَهُمْ: فَماذا تَأْمُرُونَ وَاحْتَجُّوا عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ: فَماذا تَأْمُرُونَ خِطَابٌ لِلْجَمْعِ لَا لِلْوَاحِدِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَلَامَ فِرْعَوْنَ لِلْقَوْمِ. أَمَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ كَلَامَ الْقَوْمِ مَعَ فِرْعَوْنَ لَكَانُوا قَدْ خَاطَبُوهُ بِخِطَابِ الْوَاحِدِ لَا بِخِطَابِ الْجَمْعِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا خَاطَبُوهُ بِخِطَابِ الْجَمْعِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ لِأَنَّ الْعَظِيمَ إِنَّمَا يُكَنَّى عَنْهُ بِكِنَايَةِ الْجَمْعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الْحِجْرِ: ٩] إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً [نُوحٍ: ١] إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: ١] .
وَالْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَهُ: فَماذا تَأْمُرُونَ قَالَ بَعْدَهُ: قالُوا أَرْجِهْ وَلَا شَكَّ أَنَّ هذا كلام
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute