وَأَنَّهُ جَعَلَ الْجَبَلَ دَكًّا، وَأَمَّا الْمِيقَاتُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ الْقَوْمَ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ موسى عليه السلام أَخَذَتْهُ الرَّجْفَةُ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ؟ وَاخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْمِيقَاتَيْنِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ يُفِيدُ ظَنَّ أَنَّ أَحَدَهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذَا الْمِيقَاتَ هُوَ مِيقَاتُ الْكَلَامِ وَطَلَبِ الرُّؤْيَةِ بِأَنْ قَالُوا إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الْأَعْرَافِ: ١٤٣] فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْمِيقَاتِ مَخْصُوصٌ بِذَلِكَ الْمِيقَاتِ، فَلَمَّا قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْمِيقَاتِ هُوَ عَيْنُ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ.
وَجَوَابُهُ: أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ ضَعِيفٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوُجُوهَ الْمَذْكُورَةَ فِي تَقْوِيَةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقْوَى. واللَّه أَعْلَمُ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْمِيقَاتِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ انْطَلَقَا إِلَى سَفْحِ جَبَلٍ، فَنَامَ هَارُونُ فَتَوَفَّاهُ اللَّه تَعَالَى، فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالُوا إِنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ هَارُونَ، فَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا وَذَهَبُوا إِلَى هَارُونَ فَأَحْيَاهُ اللَّه تَعَالَى وَقَالَ مَا قَتَلَنِي أَحَدٌ، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ هُنَالِكَ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الرَّجْفَةِ فَقِيلَ: إِنَّهَا رَجْفَةٌ أَوْجَبَتِ الْمَوْتَ. قَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ كَيْفَ أَرْجِعُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَدْ أَهْلَكْتَ خِيَارَهُمْ وَلَمْ يَبْقَ مَعِي مِنْهُمْ وَاحِدٌ؟ فَمَاذَا أَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَيْفَ يَأْمَنُونِي عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَأَحْيَاهُمُ اللَّه تَعَالَى. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَافَ أَنْ يَتَّهِمَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى السَّبْعِينَ إِذَا عَادَ إِلَيْهِمْ وَلَمْ يُصَدِّقُوا أَنَّهُمْ مَاتُوا، فَقَالَ لِرَبِّهِ: لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَنَا قَبْلَ خُرُوجِنَا لِلْمِيقَاتِ، فَكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يُعَايِنُونَ ذلك ولا يتهموني.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ تِلْكَ الرَّجْفَةَ مَا كَانَتْ مَوْتًا، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا رَأَوْا تِلْكَ الْحَالَةَ الْمَهِيبَةَ أَخَذَتْهُمُ الرِّعْدَةُ وَرَجَفُوا حَتَّى كَادَتْ تَبِينُ مِنْهُمْ مَفَاصِلُهُمْ، وَتَنْقَصِمُ ظُهُورُهُمْ، وَخَافَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَوْتَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ بَكَى وَدَعَا فَكَشَفَ اللَّه عَنْهُمْ تِلْكَ الرَّجْفَةَ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا فَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يُهْلِكُ قَوْمًا بِذُنُوبِ غَيْرِهِمْ، فَيَجِبُ تَأْوِيلُ الْآيَةِ، وَفِيهِ بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ/ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْجَحْدِ، وَأَرَادَ أَنَّكَ لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ. كَمَا تَقُولُ: أَتُهِينُ مَنْ يَخْدِمُكَ؟ أَيْ لَا تَفْعَلُ ذَلِكَ. الثَّانِي: قَالَ الْمُبَرِّدُ: هُوَ اسْتِفْهَامُ اسْتِعْطَافٍ، أَيْ لَا تُهْلِكْنَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ فَقَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: هِيَ عَائِدَةٌ إِلَى الْفِتْنَةِ كَمَا تَقُولُ: إِنْ هُوَ إِلَّا زَيْدٌ وَإِنْ هِيَ إِلَّا هِنْدُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ تِلْكَ الْفِتْنَةَ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا السُّفَهَاءُ لَمْ تَكُنْ إِلَّا فِتْنَتُكَ أَضْلَلْتَ بِهَا قَوْمًا فَافْتَتَنُوا، وَعَصَمْتَ قَوْمًا عَنْهَا فَثَبَتُوا عَلَى الْحَقِّ، ثُمَّ أَكَّدَ بَيَانَ أَنَّ الْكُلَّ مِنَ اللَّه تَعَالَى، فَقَالَ: تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ ثم قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْحُجَجِ الظَّاهِرَةِ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الَّتِي لَا يَبْقَى لَهُمْ مَعَهَا عُذْرٌ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا تَعَلُّقَ لِلْجَبْرِيَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ مِنْ عِبَادِكَ عَنِ الدِّينِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: تُضِلُّ بِها أَيْ بِالرَّجْفَةِ، وَمَعْلُومٌ أن الرجفة لا يضل اللَّه بِهَا، مَنْ تَشَاءُ مِنْ عِبَادِكَ عَنِ الدِّينِ، فوجب حمل هذا الْآيَةِ عَلَى التَّأْوِيلِ. فَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ فَالْمَعْنَى: امْتِحَانُكَ وَشِدَّةُ تَعَبُّدِكَ، لِأَنَّهُ لما أظهر الرجفة كلفهم بالصبر.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute