للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إِذَا كَانَ الْخَبَرُ بِأَمْرٍ يَبْعُدُ مِثْلُهُ كَقَوْلِ أبي نواس:

عليك بِالْيَأْسِ مِنَ النَّاسِ ... إِنَّ غِنَى نَفْسِكَ فِي الْيَاسِ

وَإِنَّمَا حَسُنَ مَوْقِعُهَا لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ النَّاسَ لَا يَحْمِلُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْيَأْسِ. وَأَمَّا جَعْلُهَا مَعَ اللَّامِ جَوَابًا لِلْمُنْكِرِ فِي قَوْلِكَ: «إِنَّ زَيْدًا لَقَائِمٌ» فَجَيِّدٌ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ مَعَ الْمُنْكَرِ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّأْكِيدِ أَشَدَّ، وَكَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْكَارُ مِنَ السَّامِعِ احْتَمَلَ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحَاضِرِينَ. وَاعْلَمْ أَنَّهَا قَدْ تَجِيءُ إِذَا ظَنَّ الْمُتَكَلِّمُ فِي الَّذِي وَجَدَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مِثْلُ قَوْلِكَ: إِنَّهُ كَانَ مِنِّي إِلَيْهِ إِحْسَانٌ فَعَامَلَنِي بِالسُّوءِ، فَكَأَنَّكَ تَرُدُّ عَلَى نَفْسِكَ ظَنَّكَ الَّذِي ظَنَنْتَ وَتُبَيِّنُ الْخَطَأَ فِي الَّذِي تَوَهَّمْتَ، وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أُمِّ مَرْيَمَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آلِ عِمْرَانَ: ٣٦] وَكَذَلِكَ قَوْلُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ [الشُّعَرَاءِ: ١١٧] .

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ كَفَرُوا فَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ صَعْبٌ عَلَى الْمُتَكَلِّمِينَ ذِكْرُ حَدِّ الْكُفْرِ، وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا يُنْقَلُ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَيْهِ وَقَالَ بِهِ فَإِمَّا أَنْ يُعْرَفَ صِحَّةُ ذَلِكَ النَّقْلِ بِالضَّرُورَةِ أَوْ بِالِاسْتِدْلَالِ أَوْ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الَّذِي عُرِفَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيءُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِ فَمَنْ صَدَّقَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ فِي ذَلِكَ، فَإِمَّا بِأَنْ لَا يُصَدِّقَهُ فِي جَمِيعِهَا أَوْ بِأَنْ لَا يُصَدِّقَهُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، فَذَلِكَ هُوَ الْكَافِرُ، فَإِذَنِ الْكُفْرُ عَدَمُ تَصْدِيقِ/ الرَّسُولِ فِي شَيْءٍ مِمَّا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيئُهُ بِهِ، وَمِثَالُهُ مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَ الصَّانِعِ، أَوْ كَوْنَهُ عَالِمًا قَادِرًا مُخْتَارًا أَوْ كَوْنَهُ وَاحِدًا أَوْ كَوْنَهُ مُنَزَّهًا عَنِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ، أو أنكر محمد صلى الله عليه وسلم أن صِحَّةَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَوْ أَنْكَرَ الشَّرَائِعَ الَّتِي عَلِمْنَا بِالضَّرُورَةِ كَوْنَهَا مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَحُرْمَةِ الرِّبَا وَالْخَمْرِ، فَذَلِكَ يَكُونُ كَافِرًا، لِأَنَّهُ تَرَكَ تَصْدِيقَ الرَّسُولِ فِيمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أنه من دينه. فأما الذي يعرف بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ مِنْ دِينِهِ مِثْلُ كَوْنِهِ عَالِمًا بِالْعِلْمِ أَوْ لِذَاتِهِ وَأَنَّهُ مَرْئِيٌّ أَوْ غَيْرُ مَرْئِيٍّ، وَأَنَّهُ خَالِقٌ أَعْمَالَ الْعِبَادِ أَمْ لَا فَلَمْ يُنْقَلْ بِالتَّوَاتُرِ الْقَاطِعِ لِعُذْرِ مَجِيئِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ دُونَ الثَّانِي، بَلْ إِنَّمَا يُعْلَمُ صِحَّةُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَبُطْلَانُ الثَّانِي بِالِاسْتِدْلَالِ، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَكُنْ إِنْكَارُهُ، وَلَا الْإِقْرَارُ بِهِ دَاخِلًا فِي مَاهِيَّةِ الْإِيمَانِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْكُفْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ جُزْءَ مَاهِيَّةِ الْإِيمَانِ لَكَانَ يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَحْكُمَ بِإِيمَانِ أَحَدٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ هَلْ يَعْرِفُ الْحَقَّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَاشْتُهِرَ قَوْلُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَلَنُقِلَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاتُرِ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا وَقَّفَ الْإِيمَانَ عَلَيْهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ مَعْرِفَتُهَا مِنَ الْإِيمَانِ، وَلَا إِنْكَارُهَا مُوجِبًا لِلْكُفْرِ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لَا يُكَفَّرُ أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا نُكَفِّرُ أَرْبَابَ التَّأْوِيلِ. وَأَمَّا الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِرِوَايَةِ الْآحَادِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَوَقُّفُ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ عَلَيْهِ. فَهَذَا قَوْلُنَا فِي حَقِيقَةِ الْكُفْرِ. فَإِنْ قِيلَ يَبْطُلُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ جِهَةِ الْعَكْسِ بِلُبْسِ الْغِيَارِ وَشَدِّ الزُّنَّارِ وَأَمْثَالِهِمَا فَإِنَّهُ كَفَرَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى تَرْكِ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيئُهُ بِهِ، قُلْنَا هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ كُفْرًا لِأَنَّ التَّصْدِيقَ وَعَدَمَهُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا اطِّلَاعَ لِلْخَلْقِ عَلَيْهِ، وَمِنْ عَادَةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ لَا يَبْنِي الْحُكْمَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى نَفْسِ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الِاطِّلَاعِ، بَلْ يَجْعَلُ لَهَا مُعَرِّفَاتٍ وَعَلَامَاتٍ ظَاهِرَةً وَيَجْعَلُ تِلْكَ الْمَظَانَّ الظَّاهِرَةَ مَدَارًا لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَيْسَ الْغِيَارُ وَشَدُّ الزُّنَّارِ مِنْ هَذَا الْبَابِ،