للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلنا: هاهنا مَقَامَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَنِ الذَّرِّ؟ وَالثَّانِي: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يصح القول به، فهل يمكن جعله تفسير الألفاظ هَذِهِ الْآيَةِ؟

أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَالْمُنْكِرُونَ لَهُ قَدْ تَمَسَّكُوا بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَقَرَّرْنَاهَا، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِوَجْهٍ مُقْنِعٍ.

أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مِنَ الْوُجُوهِ الْعَقْلِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الْقَوْلُ بِأَخْذِ هَذَا الْمِيثَاقِ لَوَجَبَ أَنْ نَتَذَكَّرَهُ الْآنَ.

قُلْنَا: خَالِقُ الْعِلْمِ بِحُصُولِ الْأَحْوَالِ الْمَاضِيَةِ هُوَ اللَّه تَعَالَى لِأَنَّ هَذِهِ الْعُلُومَ عَقْلِيَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ. وَالْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ خَالِقُهَا هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ مِنْهُ تَعَالَى أَنْ يَخْلُقَهَا.

فَإِنْ قَالُوا: فَإِذَا جَوَّزْتُمْ هَذَا، فَجَوِّزُوا أَنْ يُقَالَ: إن قَبْلَ هَذَا الْبَدَنِ كُنَّا فِي أَبْدَانٍ أُخْرَى عَلَى سَبِيلِ التَّنَاسُخِ وَإِنْ كُنَّا لَا نَتَذَكَّرُ الْآنَ أَحْوَالَ تِلْكَ الْأَبْدَانِ! قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ظَاهِرٌ وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا كُنَّا فِي أَبْدَانٍ أُخْرَى، وَبَقِينَا فِيهَا سِنِينَ وَدُهُورًا، امْتَنَعَ فِي مَجْرَى الْعَادَةِ نِسْيَانُهَا، أَمَّا أَخْذُ هَذَا الْمِيثَاقِ إِنَّمَا حَصَلَ فِي أَسْرَعِ زَمَانٍ، وَأَقَلِّ وَقْتٍ فَلَمْ/ يَبْعُدْ حُصُولُ النِّسْيَانِ فِيهِ، وَالْفَرْقُ الظَّاهِرُ حَاكِمٌ بِصِحَّةِ هَذَا الْفَرْقِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا بَقِيَ عَلَى الْعَمَلِ الْوَاحِدِ سِنِينَ كَثِيرَةً يَمْتَنِعُ أَنْ يَنْسَاهُ، أَمَّا إِذَا مَارَسَ الْعَمَلَ الْوَاحِدَ لَحْظَةً وَاحِدَةً فَقَدْ يَنْسَاهُ، فَقَدْ ظَهَرَ الْفَرْقُ.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَجْمُوعُ تِلْكَ الذَّرَّاتِ يَمْتَنِعُ حُصُولُهَا بِأَسْرِهَا فِي ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

قُلْنَا: عِنْدَنَا الْبِنْيَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا لِحُصُولِ الْحَيَاةِ، وَالْجَوْهَرُ الْفَرْدُ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ، قَابِلٌ لِلْحَيَاةِ وَالْعَقْلِ، فَإِذَا جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الذَّرَّاتِ جَوْهَرًا فَرْدًا، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ ظَهْرَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَتَّسِعُ لِمَجْمُوعِهَا؟ إِلَّا أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا قُلْنَا: الْإِنْسَانُ جَوْهَرٌ فَرْدٌ. وَجُزْءٌ لَا يَتَجَزَّأُ فِي الْبَدَنِ. عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْقُدَمَاءِ، وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا: الْإِنْسَانُ هُوَ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ، وَإِنَّهُ جَوْهَرٌ غَيْرُ مُتَحَيِّزٍ، وَلَا حَالَ فِي الْمُتَحَيِّزِ فَالسُّؤَالُ زَائِلٌ.

وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُهُ فَائِدَةُ أَخْذِ الْمِيثَاقِ هِيَ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؟

فَجَوَابُنَا أَنْ نَقُولَ: يَفْعَلُ اللَّه مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَأَيْضًا أَلَيْسَ أَنَّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ إِذَا أَرَادُوا تَصْحِيحَ الْقَوْلِ بِوَزْنِ الْأَعْمَالِ، وَإِنْطَاقِ الْجَوَارِحِ قَالُوا: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِبَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ فِي إِسْمَاعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لُطْفٌ؟ فَكَذَا هاهنا لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِبَعْضِ الْمَلَائِكَةِ فِي تَمْيِيزِ السُّعَدَاءِ مِنَ الْأَشْقِيَاءِ فِي وَقْتِ أَخْذِ الْمِيثَاقِ لُطْفٌ. وَقِيلَ أَيْضًا إِنَّ اللَّه تَعَالَى يُذَكِّرُهُمْ ذَلِكَ الْمِيثَاقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَقِيَّةُ الْوُجُوهِ ضَعِيفَةٌ وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا سَهْلٌ هَيِّنٌ.

وَأَمَّا الْمَقَامُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ مِنَ الذَّرِّ. فَهَلْ يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَفْسِيرًا لِأَلْفَاظِ هَذِهِ الْآيَةِ؟ فَنَقُولُ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ أَوَّلًا دَافِعَةٌ لِذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فقد بينا أن المراد منه، وإذا أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الذُّرِّيَّةُ مَأْخُوذَةً مَنْ ظَهْرِ آدَمَ لَقَالَ مِنْ ظَهْرِهِ ذُرِّيَّتَهُ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ. أَجَابَ النَّاصِرُونَ لِذَلِكَ الْقَوْلِ: بِأَنَّهُ صَحَّتِ الرِّوَايَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ فَسَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَذَا الْوَجْهِ وَالطَّعْنُ فِي تَفْسِيرِ رَسُولِ اللَّه غَيْرُ مُمْكِنٍ. فَنَقُولُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ الذَّرَّ مِنْ ظُهُورِ بَنِي آدَمَ فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّ الشَّخْصَ الْفُلَانِيَّ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ فُلَانٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>