لَهُ مَلَكٌ يُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ ... لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ
وَقَالَ:
وَأُمَّ سِمَاكٍ فَلَا تَجْزَعِي ... فَلِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الْوَالِدَةُ
هَذَا مُنْتَهَى كَلَامِ الْقَوْمِ فِي الْجَوَابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَصِيرَ فِي التَّأْوِيلِ إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ امْتِنَاعُ الْعَقْلِ حَمْلَ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَمَّا لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ لَا حَقَّ إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، كَانَ الْمَصِيرُ إِلَى التَّأْوِيلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ عَبَثًا. وَأَمَّا الْآيَاتُ الَّتِي تَمَسَّكُوا بِهَا فِي إِثْبَاتِ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَهِيَ: مُعَارَضَةٌ بِالْبِحَارِ الزَّاخِرَةِ الْمَمْلُوءَةِ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [الأعراف: ١٧٨] وَهُوَ صَرِيحُ مَذْهَبِنَا، وَمَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الْأَعْرَافِ: ١٨٢، ١٨٣] وَلَمَّا كَانَ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا لَيْسَ، إِلَّا مَا يُقَوِّي قَوْلَنَا وَيُشَيِّدُ مَذْهَبَنَا، كَانَ كَلَامُ/ الْمُعْتَزِلَةِ فِي وُجُوبِ تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ ضَعِيفًا جِدًّا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِها فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي خَلْقِ الْأَعْمَالِ فَقَالُوا: لَا شَكَّ أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ كَانَتْ لَهُمْ قُلُوبٌ يَفْقَهُونَ بِهَا مَصَالِحَهُمُ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالدُّنْيَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا الْمَرْئِيَّاتِ، وَآذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا الْكَلِمَاتِ، فَوَجَبَ أَنَّ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَقْيِيدَهَا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى الدِّينِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَفْقَهُونَ بِقُلُوبِهِمْ مَا يَرْجِعُ إِلَى مَصَالِحِ الدِّينِ، وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ وَيَسْمَعُونَ مَا يَرْجِعُ إِلَى مَصَالِحِ الدِّينِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى كَلَّفَهُمْ بِتَحْصِيلِ الدِّينِ مَعَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ مَا كَانَتْ صَالِحَةً لِذَلِكَ، وَهُوَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَنْعِ عَنِ الشَّيْءِ وَالصَّدِّ عَنْهُ مَعَ الْأَمْرِ بِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ لَوْ كَانُوا كَذَلِكَ، لَقَبُحَ مِنَ اللَّه تَكْلِيفُهُمْ، لَأَنَّ تَكْلِيفَ مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْعَمَلِ قَبِيحٌ غَيْرُ لَائِقٍ بِالْحَكِيمِ. فَوَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّهُمْ بِكَثْرَةِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الدَّلَائِلِ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا صَارُوا مُشْبِهِينَ بِمَنْ لَا يَكُونُ لَهُ قَلْبٌ فَاهِمٌ وَلَا عَيْنٌ بَاصِرَةٌ وَلَا أُذُنٌ سَامِعَةٌ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَأَكَّدَتْ نَفْرَتُهُ عَنْ شَيْءٍ، صَارَتْ تِلْكَ النَّفْرَةُ الْمُتَأَكِّدَةُ الرَّاسِخَةُ مَانِعَةً لَهُ عَنْ فَهْمِ الْكَلَامِ الدَّالِّ عَلَى صِحَّةِ الشَّيْءِ، وَمَانِعَةً عَنْ إِبْصَارِ مَحَاسِنِهِ وَفَضَائِلِهِ، وَهَذِهِ حَالَةٌ وِجْدَانِيَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ يَجِدُهَا كُلُّ عَاقِلٍ مِنْ نَفْسِهِ. وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالُوا فِي الْمَثَلِ الْمَشْهُورِ- حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ-.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ أَقْوَامًا مِنَ الْكُفَّارِ بَلَغُوا فِي عَدَاوَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفِي بُغْضِهِ وَفِي شِدَّةِ النَّفْرَةِ عَنْ قَبُولِ دِينِهِ وَالِاعْتِرَافِ بِرِسَالَتِهِ هَذَا الْمَبْلَغَ وَأَقْوَى مِنْهُ، وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلٌ بِأَنَّ حُصُولَ الْبُغْضِ وَالْحُبِّ فِي الْقَلْبِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ، بَلْ هُوَ حَاصِلٌ فِي الْقَلْبِ شَاءَ الْإِنْسَانُ أَمْ كَرِهَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute