الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ [الأعراف: ١٨٥] بَاعِثًا بِذَلِكَ عَنِ الْمُثَابَرَةِ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِصْلَاحِ قال بعده: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها لِيَتَحَقَّقَ فِي الْقُلُوبِ أَنَّ وَقْتَ السَّاعَةِ مَكْتُومٌ عَنِ الْخَلْقِ، فَيَصِيرَ ذَلِكَ حَامِلًا لِلْمُكَلَّفِينَ عَلَى الْمُسَارَعَةِ إِلَى التَّوْبَةِ وَأَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ ذَلِكَ السَّائِلَ مَنْ هُوَ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ قَوْمًا مِنَ الْيَهُودِ قَالُوا يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إِنَّ قُرَيْشًا قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ بيننا وبينك قرابة، فاذكر لنا متى الساعة؟
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : السَّاعَةُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ كَالنَّجْمِ لِلثُّرَيَّا وَسُمِّيَتِ الْقِيَامَةُ بِالسَّاعَةِ لِوُقُوعِهَا بَغْتَةً، أَوْ لِأَنَّ حِسَابَ الْخَلْقِ يُقْضَى فِيهَا فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَسُمِّيَ بِالسَّاعَةِ لِهَذَا السَّبَبِ أَوْ لِأَنَّهَا عَلَى طُولِهَا كَسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ الْخَلْقِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَيَّانَ مَعْنَاهُ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي يَجِيءُ، وَهُوَ سُؤَالٌ عَنِ الزَّمَانِ وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ أَيَّانَ بِمَعْنَى مَتَى، وَفِي اشْتِقَاقِهِ قَوْلَانِ: الْمَشْهُورُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَيْنِ وَأَنْكَرَهُ ابْنُ جِنِّي وَقَالَ: أَيَّانَ سُؤَالٌ عَنِ الزَّمَانِ، وَأَيْنَ سُؤَالٌ عَنِ الْمَكَانِ، فَكَيْفَ يكون أحد هما مَأْخُوذًا مِنَ الْآخَرِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ جِنِّي أَنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنْ أَيِّ فَعْلَانَ مِنْهُ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَيُّ وَقْتٍ وَلَفْظَةُ أَيٍّ، فَعْلٌ مِنْ أَوَيْتُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ الْبَعْضَ آوٍ إِلَى مَكَانِ الْكُلِّ مُتَسَانِدًا إِلَيْهِ هَكَذَا. قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ إِيَانَ بِكَسْرِ الْهَمْزِ.
المسألة الرابعة: مرساها «المرسي» هاهنا مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِرْسَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هُودٍ: ٤١] أَيْ إِجْرَاؤُهَا وَإِرْسَاؤُهَا، وَالْإِرْسَاءُ الإثبات يقال رسى يرسوا إِذَا ثَبَتَ. قَالَ تَعَالَى: وَالْجِبالَ أَرْساها [النَّازِعَاتِ: ٣٢] فَكَانَ الرُّسُوُّ لَيْسَ اسْمًا لِمُطْلَقِ الثَّبَاتِ، بَلْ هُوَ اسْمٌ لِثَبَاتِ الشَّيْءِ إِذَا كَانَ ثَقِيلًا وَمِنْهُ إِرْسَاءُ الْجَبَلِ، وَإِرْسَاءُ السَّفِينَةِ، وَلَمَّا كَانَ أَثْقَلُ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْخَلْقِ هُوَ السَّاعَةَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا جَرَمَ سَمَّى اللَّه تَعَالَى وُقُوعَهَا وَثُبُوتَهَا بِالْإِرْسَاءِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أَيْ لَا يَعْلَمُ الْوَقْتَ الَّذِي فِيهِ يَحْصُلُ قِيَامُ الْقِيَامَةِ إِلَّا اللَّه سُبْحَانَهُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لُقْمَانَ: ٣٤] وَقَوْلِهِ: أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها [الْحَجِّ:
٧] وَقَوْلُهُ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها [طَهَ: ١٥]
وَلَمَّا سَأَلَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ليس المسؤول عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ»
قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: وَالسَّبَبُ فِي إِخْفَاءِ السَّاعَةِ عَنِ الْعِبَادِ؟ أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا مَتَى تَكُونُ، كَانُوا عَلَى حَذَرٍ مِنْهَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَدْعَى إِلَى الطَّاعَةِ، / وَأَزْجَرَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ: لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها التَّجْلِيَةُ إِظْهَارُ الشَّيْءِ وَالتَّجَلِّي ظُهُورُهُ، وَالْمَعْنَى: لَا يُظْهِرُهَا فِي وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ إِلَّا هُوَ أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِ وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ بِالْإِعْلَامِ وَالْإِخْبَارِ إِلَّا هُوَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْمُرَادُ وَصْفُ السَّاعَةِ بِالثِّقَلِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا [الْإِنْسَانِ: ٢٧] وَأَيْضًا وَصَفَ اللَّه تَعَالَى زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ بِالْعِظَمِ فَقَالَ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الْحَجِّ: ١] وَوَصَفَ عَذَابَهَا بِالشِّدَّةِ فَقَالَ: وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
[الْحَجِّ: ٢] .