للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ مِنْ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ/ تَعَالَى أَرْدَفَ ذَلِكَ الْأَمْرَ، بِأَنْ أَمَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ فِي نَفْسِهِ، وَالْفَائِدَةُ فِيهِ: أَنَّ انْتِفَاعَ الْإِنْسَانِ بِالذِّكْرِ إِنَّمَا يَكْمُلُ إِذَا وَقَعَ الذِّكْرُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، لِأَنَّهُ بِهَذَا الشَّرْطِ أَقْرَبُ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَالتَّضَرُّعِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ بِالذِّكْرِ مُقَيَّدًا بِقُيُودٍ.

الْقَيْدُ الْأَوَّلُ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ اللَّه فِي نَفْسِهِ كَوْنُهُ عَارِفًا بِمَعَانِي الْأَذْكَارِ الَّتِي يَقُولُهَا بِلِسَانِهِ مُسْتَحْضِرًا لِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْعِزِّ وَالْعُلُوِّ وَالْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الذِّكْرَ بِاللِّسَانِ إِذَا كَانَ عَارِيًا عَنِ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ كَانَ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ: بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَلَا يَفْهَمُ مِنْهَا شَيْئًا، فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ والشراء، فكذا هاهنا وَيَتَفَرَّعُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَحْكَامٌ:

الْحُكْمُ الْأَوَّلُ سَمِعْتُ أَنَّ بَعْضَ الْأَكَابِرِ مِنْ أَصْحَابِ الْقُلُوبِ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْمُرَ وَاحِدًا مِنَ الْمُرِيدِينَ بِالْخَلْوَةِ وَالذِّكْرِ، أَمَرَهُ بِالْخَلْوَةِ وَالتَّصْفِيَةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ عِنْدَ اسْتِكْمَالِ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَحُصُولِ التَّصْفِيَةِ التَّامَّةِ، يَقْرَأُ عَلَيْهِ الْأَسْمَاءَ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ، وَيَقُولُ لِذَلِكَ الْمُرِيدِ اعْتَبِرْ حَالَ قَلْبِكَ عِنْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، فَكُلُّ اسْمٍ وَجَدْتَ قَلْبَكَ عِنْدَ سَمَاعِهِ قَوِيَ تَأَثُّرُهُ وَعَظُمَ شَوْقُهُ، فَاعْرِفْ أَنَّ اللَّه إِنَّمَا يَفْتَحُ أَبْوَابَ الْمُكَاشَفَاتِ عَلَيْكَ بِوَاسِطَةِ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى ذِكْرِ ذَلِكَ الِاسْمِ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا طَرِيقٌ حَسَنٌ لَطِيفٌ فِي هَذَا الْبَابِ.

الْحُكْمُ الثَّانِي قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ فِي نَفْسِهِ وَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِحُصُولِ الذِّكْرِ النَّفْسَانِيِّ وَلَا مَعْنَى لِكَلَامِ النَّفْسِ إِلَّا ذَلِكَ.

فَإِنْ قَالُوا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الذِّكْرِ النَّفْسَانِيِّ الْعِلْمَ وَالْمَعْرِفَةَ؟

قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَطْلُبَهُ حَالَ حُصُولِهِ أَوْ حَالَ عَدَمِ حُصُولِهِ. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَالثَّانِي بَاطِلٌ لأن ما لا يكون منصوراً، كَانَ الذِّهْنُ غَافِلًا عَنْهُ وَالْغَافِلُ عَنِ الشَّيْءِ يَمْتَنِعُ كَوْنُهُ طَالِبًا لَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ عَلَى تَحْصِيلِ التَّصَوُّرَاتِ، فَامْتَنَعَ وُرُودُ الْأَمْرِ بِهِ، وَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى وُرُودِ الْأَمْرِ بِالذِّكْرِ النَّفْسَانِيِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الذِّكْرُ النَّفْسَانِيُّ مَعْنًى مُغَايِرًا لِلْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ وَالتَّصَوُّرِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ.

الْحُكْمُ الثَّالِثُ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ وَلَمْ يَقُلْ: وَاذْكُرْ إِلَهَكَ وَلَا سَائِرَ الْأَسْمَاءِ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِاسْمِ كَوْنِهِ رَبًّا، وَأَضَافَ نَفْسَهُ إِلَيْهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نِهَايَةِ الرَّحْمَةِ وَالتَّقْرِيبِ وَالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ، أَنْ يَصِيرَ الْعَبْدُ فرحاً مبتهجاً عِنْدَ سَمَاعِ هَذَا الِاسْمِ، لِأَنَّ لَفْظَ الرَّبِّ مُشْعِرٌ بِالتَّرْبِيَةِ وَالْفَضْلِ، وَعِنْدَ

<<  <  ج: ص:  >  >>