للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنَّ الْأَنْفَالَ هِيَ السَّلَبُ وَهُوَ الَّذِي يُدْفَعُ إِلَى الْغَازِي زَائِدًا عَلَى سَهْمِهِ مِنَ الْمَغْنَمِ، تَرْغِيبًا لَهُ فِي الْقِتَالِ، كَمَا إِذَا

قَالَ الْإِمَامُ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ»

أَوْ قَالَ لِسَرِيَّةٍ مَا أَصَبْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ، أَوْ يَقُولُ فَلَكُمْ نِصْفُهُ أَوْ ثُلُثُهُ أَوْ رُبُعُهُ، وَلَا يُخَمِّسُ النَّفْلَ،

وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ: قُتِلَ أَخِي عُمَيْرٌ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَتَلْتُ بِهِ سَعْدَ بْنَ الْعَاصِي وَأَخَذْتُ سَيْفَهُ فَأَعْجَبَنِي فَجِئْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ إِنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ شَفَى صَدْرِي مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَهَبْ لِي هَذَا السَّيْفَ. فَقَالَ: «لَيْسَ هَذَا لِي وَلَا لَكَ اطْرَحْهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وُضِعَتْ فِيهِ الْغَنَائِمُ» فَطَرَحْتُهُ وَبِي مَا يَعْلَمُهُ اللَّه مِنْ قَتْلِ أَخِي وَأَخْذِ سَلَبِي، فَمَا جَاوَزْتُ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى جَاءَنِي رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أُنْزِلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ فَقَالَ: يَا سَعْدُ «إِنَّكَ سَأَلْتَنِي السَّيْفَ وَلَيْسَ لِي وَإِنَّهُ قَدْ/ صَارَ لِي فَخُذْهُ»

قَالَ الْقَاضِي: وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ، وَلَيْسَ فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى تَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَإِنْ صَحَّ فِي الْأَخْبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى التعين قُضِيَ بِهِ، وَإِلَّا فَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ، وَكَمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا جَائِزٌ، فَكَذَلِكَ إِرَادَةُ الْجَمِيعِ جَائِزَةٌ فَإِنَّهُ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَهَا، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مَا لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُنَفِّلَ غَيْرَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ حُصُولِهَا وَبَعْدَ حُصُولِهَا، لِأَنَّهُ يَسُوغُ لَهُ تَحْرِيضًا عَلَى الْجِهَادِ وَتَقْوِيَةً لِلنُّفُوسِ كَنَحْوِ مَا كَانَ يُنَفِّلُ وَاحِدًا فِي ابْتِدَاءِ الْمُحَارَبَةِ. لِيُبَالِغَ فِي الْحَرْبِ. أَوْ عِنْدَ الرَّجْعَةِ. أَوْ يُعْطِيَهُ سَلَبَ الْقَاتِلِ، أَوْ يَرْضَخَ لِبَعْضِ الْحَاضِرِينَ، وَيُنَفِّلَهُ مِنَ الْخُمُسِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَخْتَصُّ بِهِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الْمُرَادُ الْأَمْرُ الزَّائِدُ عَلَى مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لِلْمُجَاهِدِينَ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَفِيهِ بَحْثَانِ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ حُكْمَهَا مُخْتَصٌّ باللَّه وَالرَّسُولِ يَأْمُرُهُ اللَّه بِقِسْمَتِهَا عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي قِسْمَتِهَا مُفَوَّضًا إِلَى رَأْيِ أَحَدٍ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ فَأَنَّ للَّه خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْغَنَائِمُ كُلُّهَا لِلرَّسُولِ، فَنَسَخَهَا اللَّه بِآيَاتِ الْخُمُسِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا للَّه وَلِلرَّسُولِ. وَهَذَا الْمَعْنَى بَاقٍ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ مَنْسُوخًا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِأَنْ يَكُونَ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا مِلْكًا لِلْغَانِمِينَ. الثَّانِي: أَنَّ آيَةَ الْخُمُسِ. تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْغَنِيمَةِ مِلْكًا لِلْغَانِمِينَ، وَالْأَنْفَالُ هاهنا مُفَسَّرَةٌ لَا بِالْغَنَائِمِ، بَلْ بِالسَّلَبِ. وَإِنَّمَا يُنَفِّلُهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبَعْضِ النَّاسِ لِمَصْلَحَةٍ مِنَ الْمَصَالِحِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَفِيهِ بَحْثَانِ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ فَاتَّقُوا عِقَابَ اللَّه وَلَا تُقْدِمُوا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّه، وَاتْرُكُوا الْمُنَازَعَةَ وَالْمُخَاصَمَةَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ. وَارْضَوْا بِمَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ: وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أَيْ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْأَقْوَالُ وَاقِعَةً فِي الْبَيْنِ، قِيلَ لَهَا ذَاتُ الْبَيْنِ، كَمَا أَنَّ الْأَسْرَارَ لَمَّا كَانَتْ مُضْمَرَةً فِي الصُّدُورِ قِيلَ لَهَا ذَاتُ الصُّدُورِ.

ثُمَّ قَالَ: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى نَهَاهُمْ عَنْ مُخَالَفَةِ حُكْمِ الرَّسُولِ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ أَمَرَهُمْ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ بِقَوْلِهِ: وَأَطِيعُوا/ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ بَالَغَ فِي هَذَا التَّأْكِيدِ فَقَالَ: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَالْمُرَادُ أَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي دَعَاكُمُ الرَّسُولُ إِلَيْهِ وَرَغِبْتُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>